ثمة سلوكيات يمارسها عدد كبير من أفراد المجتمع تجد الكثير من النقد للتناقض الحاصل فيها بين ما هو معلن وما هو ممارس في ثنائية تعكس حالة من عدم الشفافية في المواقف الاجتماعية في أول اختبار لها، حيث البون واسع وشاسع بين هذه وتلك ما يطرح السؤال المركز حول المنظومة القيمية للأفراد والمجتمع، ما حدا بالمؤرخ العراقي علي الوردي يتحدث عن الشخصية المزدوجة للمواطن العراقي والتي اعتقد أنها تنطبق على مجتمعات كثيرة في بلداننا العربية وجوارها حيث تبدو تلك الشخصية في وجهين متناقضين، إحداهما معلنة ومعبر عنها أمام المجتمع والثانية مستبطنة ذاتية صامتة تعبر عن نفسها في أول اختبار.
ويشير الكاتب إلى التناقض بين الصورتين ويطلق عليها التناشز من النشاز والتي تعكس أزمة اجتماعية وأخلاقية عند الفرد والجماعة لجهة النفاق الحاصل فيها، ففي حين يتحدث المجتمع في أغلبيته عن سلبيات ذلك الشخص وصورته العامة وما تحمله من سلبية وفساد أخلاقي واجتماعي وسمعة سيئة وانتهازية ومكيافلية ولكن المفاجئ هو صعوده ذلك النموذج وعبر المجتمع ذاته إلى مواقع محددة إدارية و سياسية وتمثيلية وغيرها ويتساءل الوردي عن سبب ذلك التناقض ليجيب أنه يكمن في ثقافة الجاه والخاطر والتملق والتوسل واعتماد هؤلاء على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة والضغوط السياسية أحياناً والمال والرشى وكذلك الروابط الاجتماعية والانتماءات الضيقة، ويرى في ذلك سلوكاً خطيراً ومداناً ويعكس أزمة أخلاقية واجتماعية عميقةً وعلى المقلب الآخر يرى الباحث والمؤرخ الوردي أن الكثير من الذين يتمتعون بسمعة جيدة ومكانة أخلاقية وكفاءة في العمل والتحصيل العلمي ونظافة اليد واحترام الرأي العام غالباً لا يحالفهم الحظ في النجاح في الانتخابات وغيرها من أشكال التمثيل عبر الآليات الديمقراطية ويعزو ذلك للعقل الباطني لطيف واسع عند العراقيين الذين لا يريحهم نجاح مثل هؤلاء الأشخاص لعقدة نقص عندهم ومحاولة انتقام نفسي باطني لديهم والأساليب اللا أخلاقية التي يتبعها البعض للفوز والنجاح تحت أي مسمى أو اعتبار والتنازل عن كل منظومات الأخلاق العامة.
وباختصار تكمن الفكرة الأساسية في هذا التحليل النفسي في عدم شفافية هذه المجتمعات حيث تظهر شيئاً وتبطن آخر ما يعني بالنتيجة عدم اتخاذ ما يمكن تسميته رأي عام في استباق نتائج أي عملية ديمقراطية مجالها الجمهور فقد تأتي النتائج مخالفة لكل التوقعات القائمة على استمزاج وقياس الرأي العام فقد يتغلب (الرأي الخاص ) على الرأي العام وهنا يصبح نموذج الجماعة هو الصورة السلبية عنها لا الإيجابية ما يعني أن النجاح في أي عملية انتخابية لا يعني شهادة حسن سلوك لكثير من الأشخاص أو سوء سلوك لمن لم يحالفهم النجاح فثمة فوز انتخابي وسقوط اجتماعي وأخلاقي وسلوكي ونجاح اجتماعي وأخلاقي لمن لم يحالفهم الحظ.
إن الانتخابات بكل أشكالها وفي أغلب دول العالم ليست عملية مثالية ومعيارية مائة بالمائة ونتائجها مطابقة لاستطلاعات الرأي العام، ولكنها في أغلب الدول قريبة من وحدات القياس ولا أرى ذلك في بلداننا فغالباً ما تأتي النتائج غير مطابقة للتوقعات أو لاستطلاعات الرأي العام بل ربما كانت نقيضاً لها وهذه بالتأكيد ليست قاعدة عامة، فثمة استثناءات نجدها في بعض المناطق حيث درجة الشفافية عالية والوعي مرتفع ومساحة المجاملات والمؤثرات الاجتماعية والمال السياسي محدود، وهذا يبرز الحاجة للتأكيد على الصراحة والمصداقية في إبداء الرأي والشفافية في التعبير والحرية في التفكير والعقلانية في الاختيار ووضع المصلحة الوطنية في المقام الأول فلا يجوز أن ينحو المجتمع باتجاهات خاطئة تكون وبالاً عليه ومقتلاً للعملية الديمقراطية التي يجب على الجميع إنجاحها بوصفها خياراً صحيحاً وسليماً يجعل من المواطن شريكاً سياسيًا وفاعلاً في إدارة البلاد.