الملحق الثقافي- نغم حامد:
كثيرون يكتبون اليوم، ولكن لا عيون تقرأ، لذلك لا نغالي إذا قلنا: إن أقلامنا باتت بلا صرير، عاجزة عن تحريك المياه الراكدة.
ربما اليوم هو عصر الصورة، وهي القادرة على إحداث التأثير كما كان الشعر في زمن ما، وكما القصة والرواية في زمن آخر، فالصورة تحمل المعلومة مع مؤثرات لونية وصوتية وحركية، إضافة إلى حضور الشخصيّة الجذّابة (الكاريزما)، لكن هذه الحجة ليست كافية لتفسير تراجع الاهتمام بالقراءة، فالتأثير العميق للصورة موجودٌ قديماً، في الشعر والنثر، وحتى المقالات تعتمد الأمثلة التي تشكل في أذهان القراء صوراً توضيحية، إذ غالباً ما تكون الأفكار المجرَّدة، الـمُقدَّمة من دون صورٍ توضيحيّة صعبةَ الإدراك.
إن المشكلة في الكتابة نفسها، في أداة التواصل «اللغة»، فاللغة بدلاً من تقسيمها عند الدارسين إلى لغة محكيّة، ولغة مكتوبة عمادها الفهم وحسن التوصيل، قُسّمت إلى لغة عالية (فصحى)، وفصيحة، وعامية دارجة، وهذه التقسيمات تدخل في تحديد قيمة النص والكاتب معاً، فكلما كانت اللغة أعلى ارتفعت قيمة الكلام والمتكلّم، ولكن ما هي اللغة العالية؟
اللغة العالية عند اللغويين هي التي يُؤخذ بها ويستخدمها أهل الفصاحة! ولأنهم يكرهون العبث باللغة ألفوا المعاجم في الأخطاء اللغوية، وكتباً تعلم الناس الكلام، مثل (قل ولا تقل)، وبسبب الجمود والقيود اللغوية، يتخانق الكتّاب واللغويون والإعلاميون، وأصبح للإعلاميين لغتهم الخاصة.
أذكر أن أحد أهل اللغة ذات يومٍ وبالمصادفة أخبرني: إذا أردت الحقيقة، كلّ ما نتكلّم به اليوم هو من باب الفصيحة وليس بفصحى، ولكن تجاوّزاً يقال فصحى!
ابتسمت له، ولا أدري أكان ذلك مني بسبب طرافة الجملة أم لأجبر شفتي على الإطباق والصمت؟
هل أدركَ أبعاد كلامه وهو يقوله؟ فكلامه هذا يعني أن الفصحى توقفت عند الأوائل، وإذا أردت أن تتكلم بها يجب أن تتحدث بمفردات ذلك العصر وصيغه! وهي لغة لم تعد صالحة للتداول أو التواصل اليوم، ولو أنها مفهومة، وذلك ببساطة، لأن اللغة كائن حي، وهذا الكائن الحي مجموع أعضائه الأصوات التي يعبر بها الناطقون عن أغراضهم ومشاعرهم، وهذه الأصوات متأثرة بالبيئة ووعي الإنسان وروحه، وهي تتطور بهذا الشكل لتوائمه دوماً، لذا لن تنفعنا آلاف المحاضرات والتوصيات عن ضرورة التحدُّث بالفصيحة والفصحى، لأنها تغفل عن قوة تأثير البيئة على ألسنة الناس، ودورها في تحديد المفردات لهم، وتغفل عن أن قوة اللغة وحفظها مرهون بالحضارة المرتبطة بها وبمرونتها في التواصل، وليس بالتمسك بنصٍّ، وإن أُجبِر الناس على التزام الفصيحة في الكتابة فإنهم لن يستطيعوا إلزام ألسنتهم في محادثاتهم العامة، فاللغة تتطور مع تطور العلم والحداثة، وتقع تحت ضغط الاستعارة، حتى أصبحت مصنوعة عبر وسائل التواصل المختلفة، ومن هنا يمكن رد أحد أسباب ضعف الإقبال على القراءة إلى اتساع الشرخ بين لغة الكتابة ولغة التواصل التي هي لغة التعبير عن الذات وخطابها، في حين بقيت لغة الشاشات ووسائل التواصل السريعة هي لغة التواصل اليومي، وإلى أن تتغيَّر تلك الحال ويجد المهتمون باللغة الحلّ ويكفون عن التضييق، والنظر في عباءاتهم إلى الوراء، لغةُ الكتابة في وادٍ والتواصل في وادٍ آخر.
العدد 1199 – 30 -7-2024