الملحق الثقافي- وفاء يونس:
منذ أن كان الإبداع واستوى بألوان وفنونه كانت رسالته جمالية تفاعلية تواصلية سواء في الشعر أم النثر أم التشكيل أم الغناء.
وزادت أهمية هذه الرسالة مع التواصل بين الشعوب والتفاعل الحضاري بل لنقل التثاقف الذي يبني الإنسان غدا الأمر أكثر إلحاحاً وضرورة مع الاقتراب بين الثقافات، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال ترجمة الإبداع من لغة إلى أخرى.
الدكتورة سلمى جميل حداد البروفيسورة في جامعات عربية وعالمية التي نذرت كل وقتها وجهدها في تطوير نظرية الترجمة لم تقف عند هذا الحد من الدراسة الأكاديمية بل وسعت دائرة العمل ليكون جسر التواصل والتثاقف من خلال الدراسات اللغوية المقارنة، والعمل على وضع معاجم مقارنة بين اللغات، وهذا عمل موسوعي مهم وكبير تعمل عليه حداد منذ فترة من الزمن وربما هو نسيج وبنيان أي عمل وتفاعل بين الثقافات.
وإلى جانب هذا العمل الموسوعي المهم الذي نأمل أن نراه قريباً بنت البروفيسورة حداد جسور تواصل وتثاقف جمالي في الداخل والخارج.
في المجتمع العربي كان موضوع رواياتها(سكينة بنت الناطور وسأشرب قهوتي في البرازيل).
لم تذهب أو يغرها خداع ما يسمى ما بعد الحداثة في المشهد الروائي الذي أصبح تهويمات وثرثرات لغوية لا طائل لها.
بجرأة الجراح الماهر طرحت قضايا وهموم المجتمع العربي في روايتها (سكينة بنت الناطور) وشخصت علل هذا الواقع برؤية فنية قادرة على أن تشدك منذ بداية الرواية إلى نهايتها، ولن تخرج من قراءة الرواية كما كنت قبل ذلك.
هذا الدور التنويري ليس مباشراً بل عبر وعاء فني تتراكم عمارته في الحوار والشخصيات والحبكة والمواقف لتصل إلى النهاية التي تبشر بأن القادم أفضل وأجمل.
هذا التثاقف الداخلي في المجتمع العربي بين طبقاته هو الركن الأساس في تحقيق الذات وتعزيز الهوية.
وتكتمل الهوية الإبداعية التي ترصد هموم المجتمع العربي في روايتها (أكمليني يا نائلة)
ثلاث روايات تشكل مدماكاً أساسياً لأي عالم اجتماع يريد أن يقرأ أحوال وتطورات المجتمع العربي، وهذا ما كان يشير إليه عالم الاجتماع والروائي العربي السوري الراحل (حليم بركات) الذي يرى أن الروائي هو القادر على تشريح أحوال المجتمع ولكن بطريقة جمالية احترافية، وهذا ما فعلته حداد.
بعد منجزها حول المجتمع العربي تمد حداد جسور التثاقف مع الآخر (الغرب) والعلاقة بين الغرب والشرق بين عقليتين بين عاطفتين كيف سيكون الحال كيف سيكون الحب الرواية صدرت في الولايات المتحدة وحملت عنوان: جوريا داماسكينا..
الرواية إضافة جديد إلى المشهد الإبداعي العربي وهي عمل تثاقفي يقرأ ملامح شخصية الآخر من خلال قصة الحب.
حداد المترعة بالثقافة العربية النقية تعرف كيف تجعل جوريا تدافع عن لغتها بأسلوب شائق ..لنقرأ المقطع التالي:
قلت له يوماً: قل لي «أحبكِ» بالعربية لا بالفرنسية!
قال: وما الفرق؟
قلت: «أحبكِ» بالعربية وحدة متكاملة مندمجة منصهرة: «أ» تعني أنتَ، «حب» تعني الحب، و»كِ» تعني أنا، إذاً أنا وأنتَ والحب لفظة واحدة. أما je t>aime بالفرنسية فهي ثلاث وحدات، إذاً أنا وأنتَ والحب ثلاث لفظات منفصلات.
وليس هذا حسب فإن روح النقاء الشرقية الأصيلة تبدو على لسان البطلة التي ترى.
(الخطوة الأولى يجب أن يخطوها الرجل، والمرأة حبيسة انتظار.. وربما انتظارات. لا يجب أن تخون انتظاراتها مهما طال الزمن.. هي جملة هو الفعل والفاعل والمبتدأ فيها.. لا يكتمل المعنى إلا بحروفه الناطقات، أما هي فحروفها ساكنات.. ساكنات. تمشي إلى غروبها بصمت فإذا التفتت سطورُه إليها أشرقت به، وإذا كسرت محبرتُه ريشتها الرقيقة حملت انتظاراتها اليابسات ومشت بصمت نحو الغروب لتكون جملة غير مكتملة الأركان).
إشراقة الروح المتوثبة للخير للجمال.
الروح التي تعرف كم هي عظيمة المرأة الشرقية وتحديداً السورية.
هي فعل وفاعل وجملة كاملة متكاملة لا يمكن لحروف النكران أن تنقص من سموها شيئاً.
بريجيت الحزينة بل المترعة في أساها يكتب إليها الحبيب قائلاً:
(:هكذا يعود الماضي من غياباته الوهمية فارعاً بالألم والغموض، غريب الملامح ودوائره مغلقة رمادية. إنه المنديل المطوي الذي تركنا فيه أجفاننا الباكيات فأزهرت عليه تجاعيدنا. مائدة الطعام متعبة من فقر شهيتنا، السرير متعب من وحدة أنفاسنا، الأحلام متعبة من يباس محاصيلنا، النافذة متعبة من إطالة التحديق في فراغها، الكرسي متعب من تهالك أجسادنا، التلفزيون متعب من ساعات شرودنا، والهاتف متعب من الصمت. لا انتظار.. لا ترقب.. لا مواعيد. سيّان، كل الفصول سيّان.. تجيء وتغادر سيّان، ولا تجيء سيّان. لا أفهمك يا بريجيت، لا أفهم سذاجتك على الإطلاق لكنني أتعاطف مع كل كلمة لم تتلفظي بها، وكل شهقة سترت عليها في مقبرة صدرك، وكل زهرة لوز ماتت على ربيع ملاءتك البيضاء ولم تستخرجي لها شهادة وفاة رسمية).
ما أشد الألم في هذا المقطع ..مقبرة صدرك..زهرة لوز ماتت على ربيع ملاءتك..
كل جملة هي فتح لغوي وانساق دلالات أبعد من حوار أو مقطع في رواية.
القدرة على اجتراح تعبير جديد في السرد الروائي يزاوج ما بين الثقافات الإنسانية واللغة بوتقته هذا إنجاز فني يحسب للروائية ويحلق بنا نحو آفاق لا حدود لها في سبر أغوار النفس وجمالها..أفراحها وأحزانها.
ونختم لهذا المقطع المترع من الرواية..
(يراني ولا يراني وأنا أراه وأراه في يقظتي وفي أجمل أحلامي. مزاجيّ كغيمات شباط اللعين، وأنا أتقنت على يديه الباردتين الرقص وحيدة على جليد الحب من طرف واحد. ألفُّ خصر الفضاء وأطويه بحرفيّةٍ كأغصان الريحان. لا شيء يدفئ خاطري منه سوى نظرة خاطفة أو كلمة عابرة سبيل أو بعض ثناء يسكبني على جليدي كالشمس ثم يخرجني من سباتي الشتوي شجرة توت شامية محمّلة بشرابها القرمزي الشهي. كيف أُفهمك يا بيير أن أشجار التوت في دمشق محميّة عاطفية، وأنها تدبغ شفاه العاشقات بالأحمر القاني وتنهمر على أفراحهن الصيفية عصيراً بارداً مضرّجاً بأقداح الأبدية؟ كيف؟ كيف؟ يا أنت كله ويا أنا كلكَ! كيف أنهض من ورودكَ الفرنسية وخزامى حقولكَ وأبقى جوريا، جوريا الدمشقية؟)نعم إنها الدمشقية سيدة المدن عالية النسب الدمشقية السورية التي تعني كل سورية هي عطر هذا العالم..
شكرا سلمى جميل حداد على هذا الإنجاز الروائي المحلق نحو آفاق بلا حدود.
العدد 1199 – 30 -7-2024