الثورة- عمار النعمة:
منذ أن بدأ الإنسان سعيه إلى التعبيرعن أفكاره وآرائه سواء أكان شاعراً أو موسيقياً عمد إلى الطبيعة حيث رأى فيها المساحة التي يعبّر من خلالها عن مكنوناته الداخلية ،فوصف كلّ ما تقع عليه عيناه سواء الليل أو الصحراء أم ..الخ.
وإذا ماتحدثنا عن الليل وسحره فلاشك أن صورة الليل عبرالأزمان كانت حاضرة في الشعرالعربي ،ولها وقع خاص عند الشعراء، فيصورون الليل بما يحلو لخيالاتهم وعقولهم، فمنهم من صور الليل كبوابة للهموم ومفتاح للمعاناة، ومنهم من جعل الليل عنواناً للشباب ورمزاً للقوة والحيوية والنشاط والإبداع، ومنهم من رأى أنه السكون وملتقى الأحباب والعشاق.
فمثلاً إذا أخذنا من الشعرالجاهلي فإننا نجد ذلك عند الشاعرامرئ القيس، الذي عانى من هموم أثقلت كاهله وقد ازدادت خلال الليل وساعاته الطويلة فيقول في معلقته، واصفاً ليله الطويل الكئيب:
وليلٍ كمَوجِ البحرأرخى سدولَه عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه وأردف اعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فشبه الليل بموج البحر، وأنه جلب أنواع الهموم، وهنا صورة لثقل الليل على صدر الشاعر واستدعاء همومه وأحزانه وشدّتها عليه . وكذلك يقول الشاعر حسان بن ثابت، واصفاً ليله بالعسروالشدة فيقول :
تأوَّبَني لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أعْسَرُوَهَمٌّ إذا ما نَوّمَ النّاسُ، مُسْهِرُ
في حين يقول جرير :
أبِيتُ اللّيْلَ أرْقُبُ كُلَّ نَجْمٍ مُكَابَدَة ً لِهَمّيَ وَاحْتِمَامَا
أما الشاعر أبو فراس الحمداني فيتحدث واصفاً طول ليله في سجون الروم إذ يشرح معاناته فيرى كلّ شيء إلى تغيّروتبدل وزوال إلا ليله ونجومه فإنهم لا يرغبون بمفارقته فيقول :
وأسرأقاسيه وليل نجومهُ أرى كلّ شيء غيرهُن يزولُ
تطول بي الساعات وهي قصيرة وفي كلّ دهر لايسرُك طولُ
ولاننسى الشاعر حافظ ابراهيم في أبياته التي يجسد من الليل إنساناً له من الأحاسيس والمشاعر، يسمعه ولكنّه لا يحس به عندما يرسل إليه بشكواه كأنه أقسم أن يلازمه حتى يقضي عليه يقول حافظ ابراهيم في قصيدته:
ما لهذا النجم في السحر قد سَها من شدة السهر
خلته يا قوم يؤنسني إن جفاني مؤنس السحر
وكأن الليل أقسم لا ينقضي أو ينقضي عُمري ،صورة الليل عند الشاعر «بدر شاكر السياب» كئيبة وقاتمة، وهو من شعراء العصر الحديث، إذ يشكو همه أثناء ساعات الليل، وتنضح أبياته حزناً وجعاً، وربما يعود ذلك إلى مرضه العضال، الذي حوَّل الليل عنده إلى هم وأسى، فعندما يحضرالليل يحضرالأنين عند السياب، يقول في إحدى قصائده:
كم ليلةٍ ناديت باسمك أيها الموت الرهيب
وودتُ لا طلع الشروقُ عليَّ إن مال الغروبُ
كما نرى اتحاداً بين الشَّاعر واللَّيل في قصيدة فدوى طوقان التي هي حوار بينها وبين قلبها، فتخبره عن الليل وترصد الشبه بين الليل وقلبها:
وللَّيلِ يا قَلبُ أيُّ امتِدادٍ يحُيطُ بهذا الوُجودِ العَظيمْ
سَرَى واحتَوى الكَونَ في عُمقِهِ فلفَّ البِحارَ ولفَّ الأديمْ!
وكاللَّيل أنتَ، حويتَ وُجوداً مِن العَاطفاتِ كَبيراً جَسيمْ
ففيكَ السَّماءُ، وفيكَ الخِضمُّ، وفيكَ الجَديدُ، وفيكَ القَديمْ!!.
في الختام نقول : لاشك أن لليل سحره ورمزيته وجماله وأنسه وحزنه وفرحه، وهو الشاهد على مكابدات الشاعروالوعاء الفكري الذي يحمل رؤاه وقناعاته، لكن تبقى الكتابة هي المؤرخ الحقيقي لما خطّه المبدعون فكانت بحق مفردات وصوروتعابيرجمالية حقيقية تناقلناها عبرالأزمان، غادرأصحابها لكنّها بقيت أنيسة أرواحنا حتى اللحظة .
السابق
التالي