الثورة – رنا بدري سلوم:
“كلام الجّرائد لا ينفع” يا بني، فهم أولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة ثم يكتبون عن فلسطين وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلّها، ولو سمعوا إذاً لهربوا إلى حيث لا أدري” من مقولات أدب غسان كنفاني التي ما أزال أذكرها حين يرتقي في كل مرة صحفي في فلسطين.
يؤكد لنا أن مهنة المتاعب هي المهنة الأرقى حين يسودها الخطر وأنت منتظر دورك في الموت، ومع ذلك تكتب أخبارك العاجلة.
لو تدري يا غسّان أن مئتين وسبعة وثلاثين صحفياً ارتقوا على أرض غزّة.. كتبوا بحبر دمائهم أخبارهم العاجلة، لم يهرعوا من صوت الموت، ليوصلوا صورة الظّلم والقهر والعدوان، ارتقوا وهم يحترقون بنار القذائف ويذوقون وأطفالهم سياسة الرّعب والتجّويع، صحفيّون ارتقوا بغارات جويّة استهدفت منازلهم وعائلاتهم بالأمس في خيمهم آمنين كي يموت صوت الحقيقة ولن يموت، بعد أن اختاروا البقاء، ظلّوا ينشرون أخبار حرب غزّة بأدوات عصرنا، الفيسبوك ومجموعات الواتساب الإخبارية حتى لحظة استشهادهم، ما برحوا محراب الكلمة الحّق.
العالم لا يحرك ساكناً
يعملون على مدار الساعة، ويلجؤون إلى خيمتهم، التي استهدفها كيان العدوان بالأمس القريب، ما يؤكد طبيعة الاستهداف المقصود للإعلاميين، بتأكيد من مدير مكتب شبكة الجزيرة في غزة وائل الدحدوح، واصفاً الصحفيين بالذين نذروا أنفسهم لرسالة إنسانية نبيلة من أجل البشرية، وعبر عن حجم الخسارة التي مني بها الإعلام لإنسانية جمعاء، واصفاً المشهد الذي شاهده العالم بأكمله بالمؤلم والمليء بالحزن والقهر، وأن الزملاء شهداء عملوا بكل حب وتفانٍ وجهد لإيصال ما يحدث من مقتلة وإبادة وتجويع في هذه البقعة المعزولة للعالم والبشرية، والحسرة ليست عليهم بل على من ينظر لما يحل بالصحفيين من دون أن يحرك ساكناً.
ووجه الدحدوح انتقادات للزملاء الصحفيين من العرب، لكن حسرته الأكبر كانت على الصحفيين الأجانب والمؤسسات واللجان والحكومات التي تنظر إلى “الجسد الصحفي في قطاع غزة وهو يذوب كالشمعة شيئاً فشيئاً، ويحترق من أجلهم ومن أجل البشرية”، من دون تحريك ساكن، أمام كمية الدماء والأرواح التي يحتاجها العالم حتى يتحرك، واصفاً هذا الصمت بأنه “غير معقول على الإطلاق” ويستعصي على الفهم.
غضب الدم والحبر
نعم، نقف دقائق صمت أمام هذه الدماء النقية التي أبت أن تترك الميدان.. إما الشهادة أو النصر، ونقف وقفات تضامنية في كل المحافظات السورية أمام دمائهم المشرفة، وتنديداً لهذه الجرائم التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي أمام الإنسانية جمعاء، ومع بشاعة الموت بقي الشعب الفلسطيني بشجاعته يقاوم.
فانظر يا كنفاني كيف أنّ المقاومة لم تكن قشرة، بل كما وصفتها ثمرة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض، إنّها إرادة التّحرير والمقاومة والتّمسّك الصلب بالجذور والمواقف، آلاف الأطفال كناديا يبتسمون تحت اللّهب والقنابل، وهم مبتورو الأطراف.. هي الأرض الولاّدة بالصّامدين، الأرض الخصبة التي تنجب كل يوم أحراراً يعزّزون ثقافة الانتماء والتجذّر في غصن الزّيتون الصّامد والبرتقال رغم حزنه، باقون يا غسّان.. لن يعبر جريان الدّم بصمت، لن يهدأ غضب الدّم، فجمر محابرنا سيلوّن شرائط حداد كلّ صورة معلّقة على وجهٍ باسم كانت ابتسامته الخيط الأخير مع الشّمس.