الثورة – محمد الحريري:
في مساء الخامس عشر من تشرين الثاني، شهد مقهى “متّة وأركيلة”في مدينة جرمانا بدمشق، فعالية ثقافية لافتة، اجتمع فيها عشرات القرّاء والمثقفين، لحضور حفل توقيع كتاب “الظلال المتنقلة” للكاتب السوري عدي الزعبي، الذي عاد إلى دمشق حاملاً نصاً يجري به على بحر من الأسئلة الكبرى حول الأحداث التي مر بها السوريون خلال سنواتهم الأشد قسوة في تاريخهم الحديث.

حفل لا يشبه سابقه
الحفل بدأ بجلسة حوارية، أدارتها الكاتبة والأديبة ليندا حسين، بأسئلة ركزت من خلالها على جوهر التجربة أكثر من تفاصيلها، ودخل الزعبي من خلال الحوار إلى صميم الدافع الذي جعله يكتب “الظلال المتنقلة”، فقدم الكتاب محاولةً لفهم مرحلة عاشها السوريين بزمن الحرب، وفي حديثه للثورة، قال الزعبي إنّ الدافع الأساسي لكتابة “الظلال المتنقلة”، كان سلسلة طويلة من الأسئلة التي رافقته خلال سنوات مغادرته لسوريا، ويوضح قائلاً: “إنّ الكتابة كانت مدفوعة بالكثير من الأسئلة، فثمّة كثير نجهله، وثمّة ما يجب أن نعيد التفكير فيه”، مشيراً إلى أن الأحداث في سوريا منذ عام 2011، تركت أثرها العميق في وعي جيله، وزرعت فيهم كماً من الأسئلة القاسية عن الحرية، معنى الكتابة، وحدود القدرة على الاستمرار وسط الإحباط.
الجمهور بدوره لم يكتف بالصمت، وإنما ذهب مباشرة إلى جوهر هذه الأسئلة، إذ تمحورت مداخلاتهم حول قدرة الكاتب على الحفاظ على صوته أثناء تواجده في المنفى، وكيف استطاع تحويل الخوف والجمود إلى نص قادر على التواصل مع الآخر.
هذه الأسئلة فتحت الباب أمام الزعبي لشرح فلسفته، معتبراً أن الكتاب يقوم على الحوار، حوار مع تراث أسامة بن منقذ، مع الذات التي تغيرت بفعل الحرب، ومع السوريين الذين وجدوا أنفسهم مشتتين بين الداخل والمنفى.
وقبل الانتقال إلى فقرة التوقيع، قرأ الزعبي بعض النصوص التي تجسد هذا المزاج الداخلي، فساد في المكان شعور يشبه استعادة شيء من الذاكرة السورية المشتركة، ذاكرة مرت بالحرب والتهجير، والبحث عن معنى جديد للحياة.
باب الحوار يبدأ من جرمانا
أوضح الزعبي أن سبب اختيار جرمانا مكاناً يُطلق الكتاب من خلاله، ليس محض الصدفة بل هي خطوةً رمزيةً واضحة، فالزعبي يربطه بالمدينة ذكريات تعود لعام 2009، ويقول: “أردت أن ابدأ من جرمانا، عسى أن تكون بادرة خير لنكسر الجمود، ونعيد التواصل فيما بيننا”، فهو يرى أن جرمانا مكاناً يتكرر فيه جوهر التنوع السوري، فيستطيع الكاتب أن يمد يده للتواصل بين السوريين الذين فرقتهم تبعيات الحرب، فبرأيه إن التواصل ليس بالأمر السهل، لكنه يبدأ بخطوات بسيطة كهذا اللقاء.

رحلة مع أسامة
كتاب “الظلال المتنقلة” هو نص تأملي، رحلة تجمع الكاتب بالشاعر والأمير “أسامة بن منقذ” في بحر الذات على أطلال الجزيرة العليا.
يحاكي الزعبي خلالها تجربة أسامة في التأمل بالحكمة، والخسارة، ومراقبة أثر الحروب على الإنسان، إذ وجد نفسه في حوار مع هذا التراث ليس بوصفه إبحار في الماضي، وإنما ليرسو بها على فهم الحاضر.
يقول الزعبي: “لقد عشت واحدةً من أكثر اللحظات قسوة، حين تراكمت الأسئلة حول معنى الحرية وجدوى الكتابة، فاخترت أن أكتب من داخل هذه الهشاشة”، في محاولةٍ للاعتراف بما حملته تلك السنوات من خوف وإحباط، فالنص ليس إجابة نهائية بل محاولة للفهم.
يتناول الكتاب فكرة التنقل بين الأماكن، فالرحلة ما بين “معمورة العزيز” وصولاً إلى “بطمان”، تكشف العلاقة المعقدة التي تجمع الزعبي بالأماكن، والذاكرة التي لم تعد تنحصر في مدينة واحدة، فخلال 13 عاماً مر الزعبي بالكثير من المدن ويرى أنّ هناك مدناً أصعب من غيرها وهناك مدن هادئة، لكنه عايشها جميعاً دون شوق وتعلق، فالمنفى يُعلّم الإنسان حب المدن بدرحات أقل، السوريون اليوم ذاكرتهم موزعة على خرائط واسعة، لكن تبقى دمشق نقطة التعلق الأوضح، فبحسب قوله: “أذهب منها وسرعان ما أعود لها، حتى أنني أكملت كتابي فيها”، فهي ذاك المكان الذي شكل ذاكرته.
بين الأدب والثورة
إن الزعبي في كتاباته يرتمي في أحضان الأدب، فيعتمد التساؤل في الحب والتشرد والخوف، دون أن تلغي ارتباطه السياسي بالثورة، فهي حاضرة في خلفية أعماله وليس كعنوان مباشر، ويؤكد الزعبي في هذا السياق قائلاً: “أنا ملتزم تماماً بالثورة السورية، وقدمت الكثير من المقالات التي تحدثت عن النظام البائد، وما جرى في حوران ببداية الثورة”، مشيراً إلى أنه كمواطن سوري هو متشبث بها، ويناضل من أجلها، بينما تبقى الكتابة مساحة للسؤال والتأمل، تفتح الأبواب أمام الأسئلة بدلاً من إجابات جاهزة.
جمهور متفاعل ورسالة مستمرة
إن تفاعل القراء في الحفل كان صادماً للزعبي، فلم يتوقع أن يُستقبل بهذه الحفاوة، ووصف اللقاء بأنه مؤثر لأنه أقيم داخل سوريا، بين جمهور يشاركه الذاكرة والهم، فهذا ما يمنح القراءة معنى آخر، ويعيد للكاتب الشعور بأنه جزء من نسيج حيّ، لا مجرد صوت يكتب من بعيد.
أما رسالته للقارئ، فلخصها جملة واحدة: “يجب أن نحفاظ على الحوار فيما بيننا”، ففي ظل ما يحدث، يبقى الحوار الوسيلة الوحيدة للحفاظ على جزء من العقلانية في استيعاب الطرف الآخر دائماً.
وبهذه الروح، بدا توقيع “الظلال المتنقلة” أكثر من فعالية ثقافية، فهو محاولة لإعادة بناء الجسور، واستعادة الثقة بالحوار، والبحث عن ضوء يخرج من بين الظلال التي تنقلت مع السوريين في الداخل والخارج.
