الثورة- هفاف ميهوب:
«للحربِ وجهٌ أنثويٌّ مروّع، كلُّ شيءٍ يُهدّر.. روحُ الإنسان تَهرمُ في الحربِ.. في الحربِ تنسى كلّ شيء.. تنسى حياتك السابقة كلّها، حتى الحبّ تنساه..»..كلماتٌ، تعبّر عن الحروبِ المروّعة التي قادتنا المؤرّخة والكاتبة البيلاروسية «سفيتلانا أليكسيفيتش» إلى ساحاتها الدامية، وعبر رحلةٍ التقت فيها جنديات روسيّات، رغم أن أعمارهن لم تتجاوز الثامنة عشر، إلا أنهنّ قمن بمختلف المهام العسكرية، وتعرّضن لأصعبِ وأخطر المواقف، خلال مشاركتهنّ في الحرب العالمية الثانية..فعلتْ ذلك، في كتابها «ليس للحربِ وجهٌ أنثوي»،
الكتابُ الذي وثّقت فيه، ما سمعته عن بشاعة وفظاعةِ ودموية حربٍ، لم نسمع عن وقائعها إلا من رجالٍ، اختلفت تصوراتهم وأحاسيسهم عن التفاصيل التي غاب بعضها، وضاع بعضها الآخر بين الأنقاضِ والجثث، التي تحدّثت الجنديات عن دورهنّ ومشاعرهنّ حيالها، مثلما عن خفايا هذه الحرب التي كان دافعهنّ الأكبر للمشاركة فيها، الدفاع عن وطنهنّ وأرضهنّ، سمعتْ الكثير من قصصِ مروّعة، وتلمّست ارتجاف قلوب الجنديّات. رأت صور الرعب ترتسم على وجوههن، والدموع تنهمر من عيونهنّ، حارّقة كما الذكريات، شعرتْ بأن ما سمعته منهنّ، وما رأته من تأثّرٍ وخوف لديهنّ، يختلف تماماً عنّ كلّ ما كانت تسمعه، أو تقرأ عنه، وهو أمرٌ آلمها فدلّت عليه بقولها:«لحربِ النساءِ ألوانها وروائحها وكلماتها الخاصة، ومساحات مشاعرها المميزة، إنها تخلو من الأبطال والمآثر القتالية التي لا تُصدّق، وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل وكذلك الأرض والطيور والأشجار، وكلّ من يعيش معنا على هذا الكوكب.. إنهنّ يتألّمن بدون كلماتٍ، وهذا أشدّ وأرهب».. إنه ما أحسّت به وهي تنصتُ لما استدعته ذاكرة كلّ منهن، ليكون الشيء الغريب الذي لفتها، أن المهام الحربية الصعبة التي أوكلت إليهنّ خلال الحرب، قد اختلفت عمّا هي عليه بعدها، فمهمة الممرضة والقناصة ورامية الرشاش، وخبيرة الألغام وقائدة السلاح المضاد للطائرات، قد تحوّلت إلى مهمّة مخبريّة أو تدريسية أو سياحية، ببساطة: الكتاب عبارة عن وثائقٍ حيّة، لتجاربٍ ومشاهداتٍ وآراءٍ قدّمتها نساءٌ روسيات تطوّعن للقتال في الحرب العالمية الثانية، فتتبّعت «سفيتلانا» وبعد أربعين عاماً من انتهاء هذه الحرب، آثارها على حياتهنّ الاجتماعية والروحية، مثلما على مشاعرهنّ وذاكرتهنّ المثخنة بجراحٍ، دفعتهنّ لإدمانِ المهدئات، بعد إصابتهن بالعديد من الأمراض العصبية والنفسية، نعم، هي قصصُ الحربِ بكلّ ما فيها من معاناةٍ، وقد التقطت الكاتبة صورها، وكانت كلّما حملت هذه الصور إلى منزلها، تسارع لاستعادة ما رأته فيها من ألمٍ، لتكتب بعدها بنزيفِ القلم:«أصغي باهتمامٍ إلى الألم، كدليلٍ على الحياة الماضية.. لا أثقُ بأدلّة أخرى، ولا وجود لأدلّةٍ أخرى.. أتأمّل الألم باعتباره الشكل الأسمى، للمعلومة المرتبطة بسرّ الحياة والأدب الروسي، فصفحات الألم في هذا الأدب، أكثر من صفحاتِ الحبّ..»..