الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
أفضت عمليات بناء الإنسان على التركيزعلى الإنسان في مرحلة الشباب دونما عداها من المراحل الأخرى لبناء الفرد، ولم تعر هذه العمليات كثيراً لمرحلة الطفولة، باستثناء التجارب واستخلاص العبر والحقائق التربوية من أجل تطوير سبل تعلمه وعملية نموه.
لكن التقدم العلمي الذي شهده العالم، وكذلك مرحلة التنوير والحداثة وما بعد الحداثة، لم يعد التفكير والإبداع وبلوغ درجة العالم أو الفيلسوف فيها، حكراً على البالغ والرجل وكبير السن، بل إن الواقع الجديد فرض نفسه، وقد تنبهت الممارسات الجديدة للتفكير والفلسفة المعاصرة إلى الفيلسوف الصغير وأهمية تدريس الفلسفة للأطفال، وبينت أن الطفل المفكر الطفل الفيلسوف أكثر ذكاء من الشاب وأكثر جرأة على إثارة الإشكاليات وطرح الأسئلة الشائكة من الكهل وأكثر حكمة وتدبيراً من الشيخ الحكيم.
في نظرات سابقة، كان عالم النفس والفيلسوف السويسري الشهير (جان بياجيه1896-1980) يرى في نظريته للنمو والبناء المعرفي أنه قبل سن 12 من عمر الإنسان يكون معظم الأطفال غير قادرين على التفكير الفلسفي، لأنه قبل هذا الوقت – بحسب بياجيه – يكون الأطفال غير قادرين على «التفكير في التفكير»، وهو نوع من التفكير العميق الذي يميز التفكير الفلسفي.
ومع ذلك، خالفت مجموعة كبيرة من البحوث النفسية والفلسفية الحديثة فكرة بياجيه التي تقلل بشكل خطير القدرات المعرفية والفلسفية الهائلة للأطفال. في المقابل، يرى كثير من الباحثين أن قدرات الأطفال في التفكيرالفلسفي عالية للغاية بفضل قدرتهم الواسعة على الخيال، والأهم عدم إمكانية تمييزهم بين الحقيقة والخيال وبين مزيج الدهشة والفضول غير العادي.
وقد تبنى الفيلسوف الأميركي (غاريث ماثيوس) وجهة نظر مغايرة تماماً، ويسرد في كتابه «فلسفة الطفولة» إمكانات فلسفية مختلفة وكبيرة «للأطفال الفضوليين»، ويرى الطفولة كمجال وزمن للبحث الفلسفي. ويرى ماثيوس أن (بياجيه) فشل في رؤية التفكير الفلسفي لدى الأطفال، مقدماً عدداً من الأمثلة الواضحة مثل سؤال بسيط من طفل لأبيه مستفهماً «كيف يمكننا التأكد من أن كلّ شيء ليس حلما؟».
وعليه، إلى أي مدى يصح مثل هذا القول؟ وهل بات من الضروري اليوم رفع الوصاية على الطفولة والقول بالأهلية الفكرية والفلسفية لها؟ وما المهارات التي تساعد الطفل على الحصول عليها؟ .
من المعروف أنه لدى الكثير من التربويين قصة المرأة التي جاءت بوليدها الرضيع إلى الطبيب النفسي، وهو بعمر ستة أشهر من أجل تعليمه، فقال لها:» لقد تأخرتي».
يولد الطفل صفحة بيضاء على حد قول (جون لوك)، ومثلما يسهل تعليمه عدة لغات في سنواته الأولى يمكن تعليمه أصول التفكير المنطقي وإرشاده إلى المناهج المعرفية والقضايا العلمية العامة والانتقال بعالم الطفولة من مجرد عالم منظور من طرف الآخر إلى ذات ناظرة في الكون ومتسائلة عنه.
وقد دعا (سقراط) إلى ضرورة الاعتناء بالمولود الجديد ووضعه على محك التجربة وتدريبه على السلوك. وإذا كان (ديكارت) قد جعل الشك المنهجي مواجهة شاملة مع الطفولة، وصرح بأن مأساة الإنسان أنه ولد طفلاً فإن (نيتشه) نظر إلى الطفل اللاعب على أنه المعبر عن الفكر الحر والقادرعلى خلق العالم وقيمه.
في الثلاثين سنة الماضية حدثت ثورة في فهمنا العلمي للأطفال والرضع، وهي ثورة حولت أيضاً فهمنا للطبيعة البشرية نفسها. وتدرس الأكاديمية في جامعة كاليفورنيا الأميركية(أليسون جوبنيك )بعض الاكتشافات الجديدة وآثارها على طريقة تفكيرنا في الأطفال الصغار وفي أنفسنا. ولكون البشر لديهم طفولة أطول من أي حيوان آخر، ويعتبرون «أكثر عجزاً واعتمادية من أي حيوان آخر» يتساءل البعض: لماذا يبقى الأطفال بلا حول ولا قوة لفترة طويلة؟.
وتجيب (جوبنيك) في كتابها «الطفل الفلسفي.. ما تخبرنا به عقول الأطفال عن الحقيقة والحبّ ومعنى الحياة» بأن هذه الفترة مسؤولة عن تشكل وعينا الإنساني الفريد وقدرتنا على التعلم والتخيل والمحبة، إذ تتيح طفولة البشربما تتضمنه من حماية ورعاية طويلة فرصة للتعلم واللعب والاكتشاف، وهذا ما يتيح لهم التخطيط والعمل كبالغين.
وتشير الأبحاث التي تستند إليها الأكاديمية الأميركية في كتابها إلى أن أصغر الأطفال لديهم قدرات تعليمية أقوى من قدرات أذكى العلماء وأجهزة الحاسوب الأكثر تقدما، وبحسب التجارب والإحصاءات يستخدم الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة ملكاتهم لتخيل طرق جديدة قد يكون بها العالم، ويفهمون أفكاراً عن الحبّ والأخلاق في سن الثالثة أو الرابعة، ويتميزون بصفات دماغية «قد تجعلهم في الواقع أكثر وعياً من البالغين».
فعندما يلعب الأطفال يعرفون أنهم يلعبون فقط، ومع ذلك فإن مجرد اللعب يعد عملاً كبيراً، كما تقول (جوبنيك) في كتابها، إذ يمكنهم استكشاف العالم بخيال غير مقيد، وترى أن الانغماس في عوالم «افتراضية مفتعلة» بحرية، وهو ما يعلمنا كيف نفهم الواقع الحقيقي.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024