الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
كتب ميخائيل نعيمة وهو على حافّة سرير جبران صديقه الذي يودّع وينازع بآخر أنفاسه:
والموت؟ أتكون حافّة السرير بجانبي الحدّ الذي تنتهي إليه حياة مَن في السرير؟ أيكون هذا السرير الصغير أوسع من الذي انبثقت منه تلك الحياة، فكانت أزليّة مثله، والذي يستحيل عليها أن تخرج عن نطاقه فتبقى أبديّة عن نطاقه فتبقى أبديّة مثله؟
وعلاقتي برفيقي؟ أتنقطع؟ وأفكارنا التي تقاربت فتلاصقت في بعض مناحيها، وروحانا الّلتان تعارفتا فتآختا، أتفصل بينها وهذه الموت إلى الأبد؟ أين هي القدرة التي في وسعها أن تحلّ حلقة واحدة من سلسلة الزمان وتترك السلسلة مفكّكة مقطّعة؟ أليس أنّ علاقتي برفيقي حلقة في تلك السلسلة مفككة مقطّعة؟ أليس أنَّ علاقتي برفيقتي حلقة في تلك السلسلة فهي لاتنفكّ مادام الزمان زماناً؟ أليست كلّ حلقة في سلسلة لا بدّ لها ولا نهاية كتلك السلسلة؟ أليس أنّ حلقتين متّصلتين في مثل تلك السلسلة تبقيان كذلك إلى الأبد، فإذا ما اختفتا في ناحية من نواحي الزمان برزتا في غيرها، كالشمس تغيب عنّا في بقعة من الأرض فتشرق في سواها؟ لا، ليس على الأرض ولا في السماء قدرة تستطيع أن تفصم عروة مكّنتها الحياة بين إنسان وإنسان، أو بين شيء وشيء. وهل في الكون ذرّة ليست مربوطة بكلّ ملفي الكون؟
ربّاه ما أوسعك! ربّاه ما أجملك! ربّاه ما أعدلك! وما أجهلنا نفصل أنفسنا عنك بكلّ ما نفعل ونقول ونفكّر ونشتهي. فنشقى، ونحزن ثمّ ننتحب عندما تضمّنا إليك. وما أغبانا نحرق العمر طالبين معرفة غير معرفتك، وحقّاً غير حقّك، وسلاماً غير سلامك. وما أفقرنا ندّخر من دنيانا كلّ أصناف الزّاد إلّا زاد المحبّة الذي لا يفنى. وما أضعفنا نتحصّن من هذه السّاعة بكلّ أنواع الحصون إلّا حصن الإيمان الّذي لا يُدكّ. وما أشدّ عمانا عندما نفتّش عنك في غير أنفسنا!
ولكن، لماذا كُتب لي من بين رفاق جبران وإخوانه أن أشهد عراكه مع الموت وحدي؟
في المطبخ كان اللقّاء
كان هذا المطبخ مشتركاً بيني وبينك، صلة لأرواحنا لكي تتعارف إلى بعضها وتنجذب انجذاباً غريباً لا سرّ له إلا في عالم الأسرار أو رحلة الزمن القادمة والتي هي الآن غدت وعادت ورجعت وتنحّت خارج الزمان، أي سرّ آخر من أسرارها.
سأحاول ألّا أفيض باللغة الوجدانيّة السرديّة ولكن لا أستطيع فكلّ مَن أكتب عنهم هم غارقون بوجدان ذاكرتي وهم ملوك الوجدان في الواقع.
أتذكّر الآن وأنا أخاطبك جبران وميخائيل نعيمة، ورحلة الوجع والإبداع المشترك بينهما وكيف كان من نصيب ميشا الذي هو ميخائيل كما يناديه جبران أن يسرد تفاصيل جبران الجميلة والموجعة، والتي لم نكن لنعرفها لولا تلك الصداقة المميّزة الروحيّة بينهما، حقاً كان من نصيب ميخائيل أن يعيش طويلاً بعد جبران ويكون شاهداً على أجمل مخلوق التقاه في عالم الغربة والألفة والإبداع ليشكّلا معاً ذاك الثنائي الذي لا ينفصل أبداً.
شهد .. وجبران قلبي .. وشاهدة أيامي على مراحل أكاد أنساها وتغيب عن مخيّلتي لكنّ رحيلك المباغت وغير المتوقّع بآن فاجأني وأوجعني وأيقظني وآلمني وصحاني على ذكريات مطويّة في سرّ أوجاعها ورحلة الشقاء الأبديّة ..
فمن أين تبدأ الحكاية؟
من هنا في هذا المطبخ العشوائي المطلّ في أعلى بناية على مدينة بائسة بكلّ مقاييسي وليس بمقاييس العالم! فهم يرونها أقدم مدينة مأهولة في التاريخ وعاصمة الشمس تطلع منها.
في ذاك المطبخ المبعثر كنتُ أضع وسيلة غاز صغير وأطبخ طبختي .. أجلي صحوني.. وأغنّي جزءاً من أغنيتي.. هنا تعرّفتُ إليكِ أيّتها الغامضة الغالية التي لا تودّ التعرّف إلى أحد .. في مكان اسمه «المدينة الجامعيّة».. فأنت لستِ طالبة مثلنا ووعيك لا يتقبّل مراهقتنا!
لكنّ صوتي أطربك.. تحرّشاتي أضحكتك! أنا الهاربة من جلف حياة ومزاج بنات كرديّات عنيفات الطّبع أو ساذجات المزاج لا تليق ببراءة صبوتي، لهذا فرّغتها في مطبخ خارج غرفتهم التي هي غرفتي أتقصّى بهذا المطبخ العشوائي المشترك الذي لا يتجاوز مساحة المترين طولاً وعرضاً ولا يوجد به إلا مجلى رديء وشبّاك جماله فقط في إطلالته من الطابق 14 بما يضاهي بعلّوه الجبل الذي يقابلنا فكأننا أصبحنا بمحاذاة قمّته.. أتقصّى فيه وأطارد وجه طفولتي وأحافظ من خلالها على نشاط لهفتي!
كلانا كان غريباً حتى عن الغرفة التي بها.. غرفٌ تجمع فيها أنفساً شتّى من هنا وهناك.. لا ندرك كنهها .. بل فقط تفوح منها رائحة الغربة والغرابة عن أرواحنا.. في غرفتك التي ليست بالأصل لك وإنّما حللتِ بها ضيفة والمخصّصة للأصدقاء الطَلَبَة الأجانب من تركيا، كان بها كذلك عرب من البلد المحلّي، وأنت الضائعة بينهم والمضطرّة لخوض العيش والرّضا بهكذا ظروف نظراً لبشاعة الحياة وقساوتها معك خارجاً وعموماً بألا تسمح لك بالاستقلاليّة في مكان آمن بعيداً عن فوضى الطالبات.
كان ذلك في عام1998 والآن .. الآن:
«خبر وفاة شهد حبيب تتناقله المواقع وقنوات وسائل الإعلام»
فهل حقاً ذلك ياشهد… أم تمازحين… مع أنّك الصّدق بذاته قد تجسّد بكِ… الصّدق ياشهد لا بدّ نعى حاله بعدك وها هو يتلفّت يُمنةً وشمالاً ضائعاً تائهاً يودّ اللحاق بكِ.
شهد وذبحة القلب أنتِ … ستبقين خنجراً بذاكرتي… لن أنعيكِ ولن أقول كما يقول الناس… ولن أزفّك شهداً للشهادة ذاتها… بل سأهديك من روحي وردة حمراء لن تنام أبداً إلا على صلاةٍ لروحك القدسيّة.
شهد.. وا شهد روحي وشهادتها وانشقاقها من سماء الشّرف إلى دنوّ الدنيا الفانية..
عدتِ ياشهد .. وغافلتك الحياة بأن سلّمتكِ لموتٍ أحبَّ أن يصنع حياةً على مجد صحّتك
لن أقول كذا وكذا… وعدتكِ ووعدتني … وعدتكِ وعوداً فارعات تليق بالصغار وأنت الكبيرة الجليلة … انتظرتني بابتسامة الأمّ لولدها… لكنّه هذا الصغير خذلها.. فالأمّ رغم كلّ شيء تغفر لابنها.
شهد وزهر الخزامى أنت في أيّامي… شهد وبياض النّرجس في ذاكرتي… أيّتها الكربلائيّة… العفيفة اللطيفة..الشريفة.. أيّتها القصيدة الزينبيّة… واحسيناه قلبي بعدك على أيّام لم تعد تليق بك.. فأنت يليق بك جنائن رحمانيّة… لا تتشرّد فيها الأنفس … ولا تتيتّم بها المبادئ.
هنيئاً لك الفسحة السماويّة !
شهد وآخر حديث
أشعر بالغضب والعصبيّة، صرختك يا شهد بصوتك المبحوح الذي يكاد لا يطلع جرّاء القرف من الصّراخ لدنيا لا تسمع! ماذا أفعل حيالك..؟
فلا تسأمي لا تسأمي يا حبيبتي.. لن يفنى الحلم طالما أنّي عرفتك!
كيف أصفك يا شهد.. هل أعيد الزمن لأعيد معه صورك وأنت برحيلك مَن أخذني وأعادني إلى ذاك الزّمن الموجع، والّذي لأجله ولأجلك أعود كجزء من مرحلتي ومرحلتك!؟
أأحببتِني حقّاً أم مثلي وجدتِ بي غايتك.. ؟ مجنونةٌ هي الأيام .. حين أتعرّف إليكِ بأقسى ظرفٍ ومكان.. ربّما جَمَعتنا الأقدار التي تشبهنا، فذاتك تشبه فيما بعد ذاتي وذاتي قد غارتْ في ذاتك..
كنتِ صعبة يا شهد.. وهذا ما يدعوني لأكون معك.
شهد
«يأبى أن يغادرني .. لم يمهلني لأنهي جرعات الكلس وتثبيت تهدّم أربع فقرات في الظّهر.. المرحلة الأولى من العلاج كانت انتهت، وقطعتُ شوطاً من مرحلة العلاج الهرموني، اعتقدتُ كما أكّدَ الطبيب أنَّه خرج ولن يعود «.
متشبّثاً عاد يفتك بصدري «السرطان» .. احترفتُ الصبر على جبهات الألم وما زلت … مرضي اعتبرته معاناة شخصيّة لم أرغب بالإعلان عنه؛ لكن رحلة الألم طالت ولا أعلم سأصل محطّة الشفاء أم لا؟
{وإذا مرضت فهو يشفينِ}.. دمتم بنعمة الله من الصحة والعافية»
شهرزاد: هذا ماكتبتِه بتاريخ 2 مايو أيار 2021يا شهد والذي كان صدمة لعيوني أوّل ما فتّحتها في أحد الصباحات التي من المفترض أن تكون جميلة في إجازتي من العمل في الضيعة.
آه يا شهد .. من أين أبدأ وحروفي المبلّلة بالآهات هل تقوى على الزحف على خلفيّة الذّكريات التي لا تنتهي، ممتدّة بعمر الحرب على الأرض؟
أتعلمين.. ؟ لا أريد نافذة وضوءاً.. ! أريد عتمة ما لأدخل من خلالها أتتبّع ضوءك وأسير خلاله أرى وأكتب.. لا أريد نظر.. أريد عيناً داخليّة ترى ما رأتْ في الخارج عنك.. وأنت الآن في العمق.. عمق الأرض.. عمق الفضاء.. عمق السماء.. عمق الروح، أحتاج كلّ تلك الأعماق لأذهب أسرد عنك !
لماذا دائماً متكتّمة يا شهد ؟ لماذا لا تتكلّمين إلّا إذا اضطررتِ أو تحرّشتُ بك ؟ لماذا أبقيتِ على وجعك إلى أن داهمك ؟ فلم يبقَ لنا مجال للتدخّل لإنقاذك أيّتها المنتحرة بذاتها على أعتاب تحمّل الحياة..
لماذا يا شهد لم تفهمي رسائلي الطفوليّة وحركشاتي بك رسائل بأنّنا لا نقدر أن نكون لوحدنا؟ ذاتنا تغلبنا! لماذا انكفأتِ إلى مرضك لا تُعلمين أحداً به فاستضعفكِ ولم يكن حنوناً بحنانك ولا رؤوفاً كرأفتكِ؟ لماذا يا شهد خضتِ جبهات القتال الميدانيّة ولم تتعلّمي أن تخوضي جبهتك الداخليّة ؟ لماذا كنتِ السبّاقة بإعلان نصر الجيش والمطبطبة لجراح الجرحى ولم تعلني نصرك وتطبطبي جرحك؟
أنا أسألك لماذا بحكم مودّتي وثقتي بك بأنّك رأيتِ الشمس دائماً وهي تشرق من وراء الأفق.. لماذا لم تتركيها تشرق من وراء ذراك..؟ اكتفيتِ بشمس الغير عن شمسك أيّتها المضحيّة حدّ الجفاء والفناء!
أنا أتكلّم ذلك لأخفّف هول مأساتي.. لأضع قليلاً من العتب عليكِ وليس فقط على تخاذلنا كلّنا نحن البشريّة المقصّرة بحق أنفسها وبحقّكِ ..! أنت نحن .. ونحن نجلد ذاتنا وترينا كيف نجلد ذاتنا كلّاً بطريقته يا مرآتنا!
لا ينفع .. لا تنفع كلّ هذه الترّهات والثرثرات التي أخطوها لك ولا أقدر أن أعد نفسي بمرآك.. الآن ابتعدتِ .. ابتعدتِ كثيراً أيّتها الملتصقة بذاتي وأنا أحاول أن أُبقيك لكنّك لن ترضي.. أعلم بك لن ترضي أيّتها العفيفة التي اعتادت الهرب من ذاتها إلى جبهات القتال.. ستهربين منّي إلى جبهات أخرى لا تأنّبك مثلي، تعتادين فيها أن تطبطبي كلّ شيء إلا أنت! وما أنا إلا أنت لهذا ستهربين منّي بعد أن تقوي بطيفك عليّ وتغادرين! نعم تغادرين إلى حيث عوالم الله الواسعة التي ستذكّرك بي.. أنا الذكرى الجميلة.. المرآة الصادقة لتصرّفاتك! وسأبقى أرحّب بك وأريكِ كم أنا أنانيّة بعشق ذاتي على عكسك في لحظات حين يتطلّب الأمر الاختيار بيني وبين ذات الآخرين، سأكون لك درساً آخر موجعاً على أن تعلمي أنْ تعشقي فقط ذاتك ومن ثم الآخرين.. وتهبي لنفسك الحياة.. أنت الأَوْلَى بها قبل كلّ النّاس !
لن أقلب المواجع عليك وأصير بلحظة ضدّك بعد أن كنتُ معك.. لا يا شهد ! لا أنا لستُ أبداً ضدّك وما كنتُ ولن أكون، أنت من اختارني بحياتك بعد أن أعجبتكِ معطياتي، فكنتُ أنا ببساطتي وخيباتي، وكنتِ بجلالتكِ من دون هفواتك.
أيقنتُ أنّكِ لستِ رقماً من بين الأرقام ولن ترضي أن تعبري هكذا وتمرّي مرور الكرام في الحياة، فكان لكِ ذلك، والدّرب لمن انتفض من طينه لأجل جوهره الأصل في كينونته ليس حافلاً بالأنا، والورد الّذي ينمو دون رائحة، فكنتِ العواصف التي تخلق المواسم وتغيّر بلحظة الموازين، وكنتِ المواسم التي تحبل بالورد من بعد العواصف.
لا تسألي عنّي يا شهد.. ولا تأخذي بكلامي.. أنا أحبّ عنادك! حتى في أشدّ حالات وجعك، أحبّ عنادك ويلامس إعجابي، أنت المنتصرة على الحياة ذاتها، حقّاً المنتصرة على الحياة ذاتها بإضافتها من حياتك حياة مثاليّة تباهيها وتضاهيها غير أنّها أجمل منها وأقوى وخالية من المتناقضات والشوائب.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024