الملحق الثقافي-اختارها: علي حبيب:
من رواية جوريا داماسكينا للدكتورة سلمى جميل حداد
1- لا تكفي جرار العالم كله لاحتواء دمعة لم تنهمر من عينيها في تلك اللحظة، للحزن هوية واحدة لا تختلف فيها الثقافات مهما تباعدت وتنوعت جذورها ومشاربها، هوية لا عرق لها ولا لون ولا دين، إنها هوية الانكسار، هوية النفي في داخلكَ الجريح، في داخلكَ البارد الخائف المُجوّف الوحيد، الإنسان الحزين ليس حراً، لا يمكن أن يكون حراً حتى لو أراد أو خُيّل إليه ذلك، هو في كل لغات العالم كالشجرة حبيس التراب، كالزنزانة حبيس الوحدة، كالموت حبيس المجهول، وأي محاولة لترجمة الحزن من لغة إلى أخرى هي خيانة المترجم لقدسيته لأن الحزن لا يُترجم.. هو هو في كل لغات الأرض وفي كل الثقافات البائدة والمعاصرة.
جوريا سعد.. جورية دمشق الوردية وأبجدية الحب والدمعة الحبيسة في قارورة عطر، هكذا تفردت فبقيت وحيدة كالشمس. صوت أمها العالي يشوش فضاءاتها، وكذبة أبيها تحطم أيقونتها، وجدّها مزرعة الجوري والحب.
يُقال إن الأسماء لا تُترجم، لكن بيير ترجمها فاتسعت بروزا داماسكينا ضحكة المتوسط، صنعت لأستاذها الفرنسي عطراً يجمع الأضداد في قارورة: كونترا أنسامبل ضاجّ كالألم، صارخ كالغضب، وديع كالحب، حزين كالعنفوان، مطمئن كالجذور، دافئ كالوعد، متلهف مثلها وبارد مثله، في غيابه الأبدي، ضمّت وجعها إلى صدرها كما يضمّ العازف عُوده الحزين وانصرفت إلى ماضيها الميت الحي وحاضرها الباذخ بما أتقنت على يديه، هي اليوم من أشهر صانعي العطور في العالم، وربما أكثرهم عرضة لخناجر الغدر، لكنها لا تزال مأهولة بكونترا أنسامبل، أول وآخر قارورة عشق.
خبر عاجل وعناية فائقة وقلب يتوقف بعد طول صفير، وثّابة للغياب أكثر من أي يوم مضى، أنهكها فراغ الحضور وأثقلها حضور الغياب، الأماكن ضيقة ربما لم تُصنع لمقاسها، والأثير خانق ربما لا يتسع لرائحة عطر صنعته من بعض حضور وبعض غياب، لقد اختارت من المسافات أطولها ومن الغياب أبعده ومن الحب أصعبه، ربما.. ربما حان الوقت لأن يُؤنَّث في غيابها الغياب.
2- منذ ذاك اليوم توقفت دينا عن الانتظار، وتوقفت عن الأمل، وتوقفت عن الأنوثة، وتوقفت عن شراء العطور.. منذ ذاك اليوم توقفت عن الإنصات لنصائح والدتها النمطية: طولي بالك يا بنتي! المرأة يجب أن تكون صابرة ومرنة، لا تخربي بيتك بسبب نزوة عابرة! لو تركت كل زوجة بيتها بسبب نزوة عابرة لما عمّرت البيوت.. الطير مهما طار لا بد أن يعود إلى عشّه يا عيوني، طولي بالك الله يرضى عليك، أولادك بالدنيا ياحبيبتي.. هم ثروتك الحقيقية.. ماذا! تريدين الطلاق!! لا طلاق في عائلتنا يا دينا، انزعي هذه الفكرة من رأسك المجنون! والله لو سمع أبوك بهذا الكلام يهدّ الدنيا فوق رؤوسنا.. صلي على النبي يا بنتي، صلي على النبي وانزعي هذا الموّال من رأسك! كل شيء له حل والمرأة يجب أن تكون واعية ومتفهمة ويجب أن تتأقلم مع كل الظروف حفاظاً على بيتها وأولادها.
المرأة يجب المرأة يجب.. المرأة يجب!!! وماذا عن الرجل يجب؟ ها! ماذا عن الرجل يجب؟؟؟ اصمتي يا أمي! اصمتي ودعيني وشأني! لا أريد المزيد من النصائح ولا أريد المزيد من الواجبات.. لقد انخلع كتفاي من حملها ولم أتمكن من إرضاء أحد.. دعيني وشأني رحم الله والديك.
3- يراني ولا يراني وأنا أراه وأراه في يقظتي وفي أجمل أحلامي.. مزاجيّ كغيمات شباط اللعين، وأنا أتقنت على يديه الباردتين الرقص وحيدة على جليد الحب من طرف واحد.. ألفُّ خصر الفضاء وأطويه بحرفيّةٍ كأغصان الريحان، لا شيء يدفئ خاطري منه سوى نظرة خاطفة أو كلمة عابرة سبيل أو بعض ثناء يسكبني على جليدي كالشمس ثم يخرجني من سباتي الشتوي شجرة توت شامية محمّلة بشرابها القرمزي الشهي.. كيف أُفهمك يا بيير أن أشجار التوت في دمشق محميّة عاطفية، وأنها تدبغ شفاه العاشقات بالأحمر القاني وتنهمر على أفراحهن الصيفية عصيراً بارداً مضرّجاً بأقداح الأبدية؟ كيف؟ كيف؟ يا أنت كله ويا أنا كلكَ! كيف أنهض من ورودكَ الفرنسية وخزامى حقولكَ وأبقى جوريا، جوريا الدمشقية؟
إنه الحب يا بريجيت، الطعام في الشرق صندوق بريد يحمل رسائل طاعنة في العواطف والمشاعر.. الأكل ثقافتنا.. نحن لا نأكل فقط لنعيش.. نحن نأكل لنُتخَم بالحب والحنان، لنقارب المسافات فيما بيننا، لنجتمع حول جذورنا وعاداتنا، لنروّض أولادنا على الذوبان في العائلة، لنخبر من نعدّ الطعام له أنه يعني لنا الكثير وأنه يستحق جهدنا ووقتنا ومالنا.. الأم التي تطهو الطعام لعائلتها تترك وراءها رائحة خاصة يستدفئ بها أبناؤها حتى بعد رحيلها بسنوات، إنها ثقافة الدفء والشعور بالأمان، ثقافة العطاء والاهتمام بالآخر، ثقافة منقوشة الزعتر الساخنة التي تتلقفها الأيادي بشغف وتتقاسمها الأفواه، ثقافة المطبخ: مملكة المرأة وتاج البيت وأكبر مصنع للحب.
4- لن أكذب عليك يا دينا وأقول لك إنها ماتت، لأنها لن تموت، سأظل أحبها ما حييت، وسيظل كونترا أنسامبل عطر الأنثى الوحيد الذي يخاطب رجولتي.. عطر انتظاراتي الطويلة، أعرف أن الحب من طرف واحد هو أكثر أنواع المشاعر إذلالاً على الإطلاق، لقد جربته قبل أن تجربيه أنت وسمعت صرير أوجاعه في مفاصل حياتي كلها حتى أصبحتُ قامة من وجع، وحين تقدمتُ لخطبتك ظننتُ واهماً أنني قادر على نسيانها وأن استبدال امرأة بأخرى هو العقار السحري المُعتمد دولياً لإيقاف أي نزيف عاطفي طال أمده حتى أصبح مزمناً، كانت أكبر كذبة في حياتي، لقد ابتليت بداءين: استمر النزيف وأصاب روحي معكِ داء اليباس وعقدة الذنب، لا مرارة أشد من مرارة العيش تحت سقف واحد مع من لا تحب، جسدكَ في مكان وروحكَ تهيم في مكان آخر، وجيعة تلك الليالي كثوب شتوي مرقّع لا ينتمي إلى دفءٍ، ببساطة لأنه ليس لكَ، وجيعة وقاسية ولئيمة كحطّاب.
5- كم أحزنني هذا الشعور وترهلت له منعطفات روحي! لقد تحول جدّي الوارف إلى أغنية حصاد عتيقة.. إلى سنديانة عارية بعد أن كستها الطبيعة بأجمل ما فيها وامتلأ خزّان ذاكرتي بأبهى صورها، وعكة خواء ضربتني، حصدت أخضري وتركتني يابسة قاحلة داخل نفسي، قطرة قطرة يرحل حضورنا حتى نجفّ بلا صخب، يلزمنا الكثير من الوقت كي نجد مقاعد كافية ترتاح عليها أوجاعنا، أنا اليوم متعبة من الوجع.. متعبة وثقيلة على عمودي الفقري كقنديل قديم في شارع فرعي حزين، آه منك أيتها الروح المعذبة الحبيسة داخل جسدي! قاسية كالنهي، ليّنة كالتمني، قوية كالحلم، وضعيفة كشتلة حبق، من أنتِ، وماذا تريدين مني، ولماذا أتيت إلي؟.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024