الملحق الثقافي- آمنة بدر الدين الحلبي – جدة:
تأخر الليل بالهبوط ليستعمر الأرواح، ويسكن بين ضلوعها ويتكاثر بين حناياها، وينثر عبق العشاق على جنبات القصر، بل آهاتهم التي تخرج من بين أرواحهم، محملة بعبق النخل ذات الأكمام، الذي يملأ الزمان والمكان، ويحمي الروح والجسد بآن واحد.. كأن القصر على موعد استثنائي مع حدث استثنائي، ربما وصلت حديقة القصر باكرًا، بل جنة القصر كانت بطائنها من استبرق (وجنى الجنتين دان)(الرحمن)، فبأي الكلمات أناديك أيها الإنسان.. سرحتُ مع جنة الله في أرضه، وجمالها الأخاذ، وطلبتْ روحي من الله أن يؤخّر ظلمة الليل لأستمتع أكثر عندما بدأت حبات النخل البرحي تتدلى بلونها الذهبي الرائع.. أي جمال هذا منحه الله عز وجل للإنسان! وأي نعم لا تعد ولا تحصى ليعمّر الأرض ويبنيها بالمحبة، ويدثرها بالحب، كونه خليفة الله في أرضه، يتناسل حبًا، ويتكاثر محبة، لأن الله محبة واشتياق لاشتياق.. أي جمال هذا في نخلة سامقة تحب الإنسان! وتلطف له الجو من الغبار ومن الغازات السامة كـ غاز الفحم، لكن نفس الإنسان أمارة بالسوء، بدلا من أن يفديها بروحه، يعيد للأذهان حادثة قابيل وهابيل حين ينثر القتل، ويصنع الموت، دون أن يدرك أن شجرة النخل توفر الحماية لنمو أشجار الفاكهة، فهل نحن بنو البشر نحب بعضنا البعض كما نخلة البلح والتمر.. وقفت طويلاً تحتها، تارة أحضن أغصانها، وتارة أخرى أشم عبقها المتفرد في هذا القصر، وبين هذا وذاك سقطت حبة برحية في صحن يدي، ورحت أمررها إلى فمي لطعمها اللذيذ الذي لا يُقاوم، لكن حفيف الأشجار استوقفني.
كان حفيفٌ من نوع آخر، كـ نبض القلب، وكأنه يعيد الحياة لقصر موحش لا يعرف المحبة، ولا كنه المحبة، ولا يعترفُ بالحب في ظل حرب قذرة.. بدأ عسل حبة البرحي يقطر من بين أناملي، وأنا أتابع صوتًا يتغلغل إلى روحي مثل سمفونية محبة، واستدرت وإذ بحورية الليل قادمة بثوب ذهبي، كلون حبة البلح تضيئ الكون.. ما أجمل قدومها بين شرود القمر ولون حبة البرحي التي زادها القصر بلونها، وبعسلها.. ألقت التحية بعينيها الناعستين، وصمتها الذي شقّ عنان السماء، لكنها اخترقتني بنظرة نفاذة من خلال حبة البلح التي احتضنتها أناملي، وابتسمت هامسة تذوقيها، إنها برحية قلبه، يحبها، يشتاق طعمها، يحدثني عنها باستمرار ويذكرني بسقايتها، زرعها بيديه ـ حين تذوقتُ عسلها ـ ذابت في فمي وبقي طعم عسلها يدغدغ حليمات الذوق في لساني، كأنه أمامي.. تنفست الصعداء إنها ترصد كل حرف يقوله لها، عشقها لا ينتهي، تذكره في الذهاب والإياب، في الصباح والمساء، في الصخب والسكون، تناجيه بروحها، بصمتها، بعينيها، تدعو له إن جلل صوت الله في الفضاء الواسع.. وقطعتْ همساتُ قلبي في سكينة الليل قائلة: عندما أدعو له يقول لي: شكرًا أيتها الروح الرائعة واللاهوت المقدس.. قلت: هل أنت واثقة من حبه؟
قالت: أجل.. عندما يحكي لي عن خبايا قلبه، عن حزنه وفرحه، عن أيامه التي عاشها ويعيشها على خطوط النار، عن المحبة التي اعتمرت قلبه، ولا تفارق روحه بعد أن عرفني، أنا ميزان قلبه، دائما يردده، لكن الوطن يجري مجرى الدم يدافع عنه من براثن الصهيونية المزروعة على الحدود، عدا على الأعداء الذين تغلغلوا وقطعوا حدودنا.. قلت: الحق معه بدؤوا بسورية الياسمين ودمروا وقتلوا واغتصبوا ولولا رجال الله في الميدان كانت لقمة سائغة واليوم الكيان يعيث فساداً في فلسطين ولبنان ويحرق البشر والحجر والشجر، ويعتدي على سورية بين الفينة والأخرى.. قالت: علني أعيش معه سويعات من بين الطلول، يغازلني باستمرار، إنه كـ المطر تساقط على مساحة جسدي، واخترقت نقراته شرياني ووريدي.. قلت: ما أجمل عشقك يا حورية الليل من البعيد.. قالت: أستحضر روحه كما هو وأعيش قصة حب رائعة في حضرة مسائية وأنا أتلو صلواتي، ويناديني برحية عسل، سمفونية محبة، إحساسك سمفونية حب لا تنتهي، ولاهوت مقدس، وأرواحنا هي التي تتخاطب لأنكِ قريبة دائمة من القلب رغم البعد.. قلت: بما أنك قريبة من قلبه فـ لن ولم ينساك.. قالت: لكنه غريب الأطوار، ومتعدد الأحلام، كل يوم في شان.. يوم يريد أن يسكنَ جزيرة نائية عن بني البشر الذين يقتتلون ويقتلون غيرهم، صراع على الثروات وصراع على الأرض ومن يحكمها، متناسين أن الحكم لله الواحد القهار.. ويوم آخر في قطار الرحيل للوطن.. قلت: جميلة هي الأحلام، ورائع هو التأمل، والتحليق في ملكوت الله، عسى ولعل ينشد فيها ضالته، ولا تنسي قول الله تعالى (وخلقناكم أطوارًا). قالت: تبحثين له عن أعذار.. قلت: حبيب الرحمن يقول (التمس لأخيك المؤمن اثنان وسبعين عذرًا). فكيف لا تلتمسين لحبيبك العذر؟؟؟ وهو على خطوط النار يحارب الأعداء، ويحمي الحرائر.. قالت: ما أوسع قلبكِ!!! تحبين…. تسامحين.. قلت: المحبة تدعوني دائمًا وأطيعها، والتسامح يعلمني الصفاء مع النفس.. قالت: كلما التقيتك أتعلم منك.. قلت: ألم تتعلمي منه يا حورية الليل.. قالت: روحه سكنت بين جوارحي في أحد الليالي.. قال: أحسك قريبة مني وأقسمُ على ذلك، أيها القمر المبتسم دائمًا، يا أطيب روح، وأطيب قلب أعشق حنينه وصفاءه، وأجمل لاهوت مقدس.. وقتها أجبته: أحب قلبك النقي العاشق لمدن السلام لمدن الياسمين والمحبة. قال: أتمنى لقاءنا مجدولاً بهذا الحب، إنه يقترب يومًا بعد يوم بإذن الله.. ريثما تنتهي الحرب، وأعود إليك مكللاً بالنصر المؤزر من ساحات القتال.. وها أنا أرسل لك رسائل حب من أرض المعركة معتقة بالشوق، ومعتقة بالعشق الإلهي للوطن.. قالت: رسائل حب في زمن الحرب يا زائرة الليل وغابت في صمت مقيت.. قلت: هو ذاك الواجب الوطني الذي يدعونا جميعاً لنذود عن الحمى ضد أعداء السلام الذين يتذرعون بالسلام.. ألم تقرأي رسائل غسان كنفاني الفلسطيني الثائر ضد أعداء الإنسانية إلى حبيبته السورية غادة السمان الكاتبة العظيمة قال: الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.. أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك، وأستطيع أخذك بمقدار ما ترفضين ذلك، وأنت ترفضين ذلك بمقدار ما تريدين الاحتفاظ بنا معاً، وأنا وأنت نريد أن نظل معاً بمقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم!!! ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقّدة.. قالت: هذا كلام فلسفي بعيد عن كنه الحب.. قلت: هكذا رجال الله على الأرض يمتلكون فلسفة في عشق الوطن، وللعشق عندهم مراتب، الوطن أولاً وبعده يأتي العالم وإن كانت الحبيبة.. قالت: لكن نبضات قلبي تشق ضلوع الصدر من اشتياق.. قلت: استحضري روحه، هو في ميدان القتال كي ينبض قلبك، إنه العدو الذي استباح الحجر والشجر والبشر في لبنان وفلسطين وقبل في سورية وما زالت في سورية خلايا.. يا حبيبتي عدونا واحد وهدفنا واحد.. غابت في لحظات عن الوعي، وانتفضت ودمع العين يسبقها. قالت: وهي تنتحب كان يقدسني ويثق بي من قلب المعركة يناديني زنبقتي، زنبقة الزمن، لِم لم يأتِ، قلت: جميل أن يكلمك من وطيس الحرب الحامية وبالأمس فقد زملاءه الصحافيين بصاروخ صهيوني قلت: سأعيد عليك بعضًا من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان.. قال: شيء جميل أن تكون قريباً من شخص محتفظ بك، لا يبتسم لغيرك، ولا يعطي ربع مكانتك لأي شخص آخر.. هل هناك ما هو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟ لأن الحب وحده لا يستطيع مهما بلغت حرارته أن يخبز رغيفاً واحدا. فكان رد غادة عليه برواية الخبز قبل الحب أحيانًا.. صمتت صمتاً بليغاً ولم أشأ أقطع حبل صمتها لأن عينيها العسليتين اغرورقتا بالدموع وهي تستحضر روحه، وتناجي قلبه عله يعود يومًا من قلب معركة حامية الوطيس اخترقت كل المحرمات، لكنه يقاتل مع رفاق السلاح عدوِ غاشم لئيم عتّلِ زنيم.. يقاتل أبناء الأفاعي الذي عاثوا فسادًا بأرض مقدسة طاهرة أرض الأنبياء والقديسين، والأولياء الصالحين، أرض المحشر والمنشر هي بلاد الشام الجميلة بسمائها وأرضها وبحرها وملها وأنهارها.. باركها حبيب الرحمن لأن ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليها، فاخلعوا نعالكم أيها الزائرين حين تطؤوا أرضها لأول مرة. ومع اقتراب لسان الصباح وامتد، سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
العدد 1212 – 5 – 11 -2024