الثورة :
يُعدّ القرار الأميركي الأخير بإلغاء قانون قيصر، محطّة مفصلية في مسار العلاقات الدولية مع سوريا، وحدثاً يحمل دلالات سياسية واقتصادية عميقة، كونه يطوي صفحة طويلة من العقوبات التي أثّرت سلباً على حياة السوريين واقتصادهم، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعافي الوطني والانفتاح الإقليمي والدولي.
هذا التطور لم يأتِ صدفة، بل جاء ثمرة جهود دبلوماسية متواصلة، وضغوط سياسية وقانونية قادتها الحكومة السورية الجديدة وشخصيات سورية ومؤسسات فاعلة في واشنطن، استطاعت إقناع صانعي القرار الأميركيين بضرورة مراجعة السياسات القديمة تجاه دمشق، بعد المتغيرات الجذرية التي شهدتها البلاد منذ سقوط النظام السابق في نهاية عام 2024.
أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي نسخة ميزانية وزارة الدفاع لعام 2026، متضمنة مادة تنص على إلغاء قانون قيصر بالكامل، ومن دون أي شروط مسبقة، بحلول نهاية العام الحالي، وقد حظي القرار بتأييد واسع، إذ صوّت لصالحه 77 عضواً مقابل 22 معارضاً، ما يعكس توافقاً نادراً بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن ضرورة مراجعة السياسة العقابية السابقة التي استمرت لأكثر من عشر سنوات.
ويُعدّ هذا التصويت انتصاراً واضحاً للدبلوماسية السورية الجديدة، التي اعتمدت خطاباً متزناً وواقعياً في التعامل مع المجتمع الدولي، قائمًا على إعادة بناء الثقة وتقديم رؤية إصلاحية شاملة لإعادة الإعمار والاستقرار.
كما مثّل القرار تراجعاً عملياً عن النهج الأميركي السابق القائم على الضغوط الاقتصادية والعقوبات الجماعية، والانتقال نحو سياسة أكثر واقعية تراعي التحولات السياسية والإنسانية في سوريا والمنطقة.
جاءت الخطوة ثمرة تحرّك مكثّف قاده “المجلس السوري- الأميركي” وعدد من الشخصيات السورية المقيمة في الولايات المتحدة، وعلى رأسهم محمد علاء غانم، الذي وصف القرار بأنه “نصر دراماتيكي بكلّ معنى الكلمة”، مؤكداً أن التعديل الجديد حوّل البنود الإلزامية السابقة إلى أهداف غير ملزمة، ما يعني عملياً انتهاء مفعول القانون.
كما أشارت مصادر دبلوماسية إلى أن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك لعب دوراً في تهيئة المناخ السياسي لتمرير هذا القرار، تماشياً مع توجيهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا مراراً إلى رفع العقوبات عن الشعب السوري وتشجيع الاستثمارات في مرحلة إعادة الإعمار.
السيناتور جين شاهين، من جانبها، أشادت خلال لقاء مع رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بالدور الإيجابي الذي لعبته قطر وتركيا في دعم الاستقرار السوري، معتبرة أن هذه الخطوة تمهد لتعاون إقليمي أوسع في إعادة بناء سوريا.
من المتوقع أن يترك إلغاء قانون قيصر أثراً بالغاً على الاقتصاد السوري، الذي عانى طوال سنوات من القيود المفروضة على التحويلات المالية، والاستثمارات، واستيراد المواد الحيوية.
ويُنتظر أن يسهم القرار في إعادة الثقة بالبيئة الاستثمارية السورية، خصوصاً مع توجه رجال أعمال وشركات عربية ودولية لدراسة فرص الدخول إلى السوق المحلية، وتفعيل مشاريع البنية التحتية والطاقة والنقل التي كانت مجمدة بسبب القيود المصرفية.
كما سيساهم في تحفيز عودة رؤوس الأموال السورية المهاجرة، ما من شأنه دعم العملة الوطنية وإنعاش الدورة الاقتصادية، وفتح الباب أمام استئناف التعاون مع مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية، وفي مقدّمتها الصناديق العربية والبنك الإسلامي للتنمية.
ويؤكد الخبراء أن رفع العقوبات سيُعيد النشاط إلى القطاعات الإنتاجية المتوقفة، ويساعد على خلق فرص عمل جديدة، خصوصاً في المناطق المتضررة من الحرب، في حين ستستفيد قطاعات الصحة والتعليم والنقل من تحسن في تدفق المساعدات والتجهيزات.
وسيكون رفع العقوبات الأميركية سيكون بمثابة اعتراف دولي بواقع سياسي جديد في دمشق، ويعزز مكانتها كشريك في رسم مستقبل المنطقة، كما يتوقع أن تتسارع الخطوات الأوروبية نحو مراجعة العقوبات الخاصة بها.
ويمثل القرار الأميركي نجاحاً جديداً للدبلوماسية السورية الحديثة، التي استطاعت خلال فترة وجيزة تفكيك العزلة الدولية وبناء شبكة علاقات متوازنة مع الشرق والغرب على حدٍّ سواء، كما أنه استحقاق وطني يعيد الاعتبار للسيادة السورية ويؤكد جدارة مؤسسات الدولة في خوض مرحلة التعافي بثقة.
وستكون المرحلة المقبلة اختباراً حقيقياً للقدرة السورية على استثمار هذا الزخم الدبلوماسي في جذب الاستثمارات، ووضع سياسات اقتصادية جديدة تقوم على الشفافية والإنتاجية والمساءلة لتدخل سوريا مرحلة جديدة تُبشّر بانفتاح سياسي واقتصادي غير مسبوق عقب سنوات من الحرب.
ويعتبر إلغاء قانون قيصر تعبيراً واضحاً عن نهاية مرحلة وبداية أخرى؛ مرحلة من الانفتاح والاعتراف الدولي والعودة إلى دور سوري مركزي في الإقليم، ويؤكد نجاح الدبلوماسية السورية الجديدة في تحويل التحديات إلى فرص، ومؤشراً على أن البلاد تسير بثقة نحو مرحلة الاستقرار والتنمية والبناء.