الملحق الثقافي-حسين صقر:
يقال:»إن الفكر الإنساني هو وليد الانتماء، والأخير عبارة عن نتاج تجارب الإنسان والمؤثرات المحيطة به من خبرات وتضارب أفكار وعادات وتقاليد، والأفكار هي الطريقة المثلى لإنتاج الصواب والوعي، وما دون ذلك يبقى عبثياً»
لهذا طرحت مسألة الحفاظ على الهوية الوطنية والانتماء على بساط البحث في الأوساط العلمية والأكاديمية في تسعينيات القرن العشرين على خلفية انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية، وبداية تشكيل عالم أحادي القطبية، يسعى إلى قطف ثمار الحرب الباردة، ويعمل للسيطرة على العالم، ليس فقط بالإرادة السياسية المستندة على الذِّراع العسكرية الضَّاربة، والإمكانات الاقتصادية الهائلة، إنما باستخدام السِّلاح الأخطر والأقل كلفة، وهو التَّغيير الفكري والثقافي الذي ينال من الهوية والوطنية للدول في أسسها وثوابتها، وفرض ثقافة وهوية عالمية، وذلك بالاعتماد على كل الوسائل المتاحة، ولاسيما الامبراطوريات الإعلامية، التي تولت صناعة الأفكار والتّرويج لها على مستوى العالم كله، ولاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، والقضاء على الهوية الوطنية، لتحل محلها هوية عالمية، لا تمت إلى الهوية الوطنية بصلة، بل هي نقيضها تماماً، ويجب أن يُقضى عليها حتى تحل مكانها.
بالطبع ليست الغاية من هذا التقديم توصيف ما يحصل في العالم على أن هدفه تغيير الانتماء وتلوينه وبعثرته، ولا طمس الهوية، وإفقاد لذة الوحدة الوطنية معناها، بل ما يحدث في العالم يشي بذلك لخلط الأوراق، وإعادة توزيع البشر ضمن شرائح للسيطرة وغرس كل المفاهيم التي يسعى لها نظام أحادي القطبية بما يتناسب مع مصالحه وأهداف وخدمة مشاريعه في الهيمنة والسيطرة على العقول، وذلك منذ بداية تلقي الطفل لأي إشارة يكون قادراً على استيعابها.
ولهذا بات ما يسمى الثقافة العالمية أداة لا تخدم الهوية الوطنية، بل أداة ضد التطوير، وتحديداً سلاحاً للتدمير، لأن عملية التطوير الحقيقي والهادف والمنظم في أي مجتمع من المجتمعات تقوم على أساس إعادة البناء الفكري والثقافي لأبنائه عن طريق فكفكة الوعي، وإعادة تركيبه على قاعدة الثوابت والقيم والمبادئ والأخلاق التي تأصلت في المجتمع تاريخياً، من أجل استنباش القيم الأصيلة وتوجبه سلوكه بالشكل الصحيح، وبكل الوسائل المتاحة، بحيث ينخرط في عملية التغيير التي تهدف إلى إعادة البناء تحت قيادة النخب السياسية والأكاديمية القادرة على وضع الخطط والبرامج لتطوير الدولة والمجتمع، بحيث يشارك كل فرد من أفراد الجميع في عملية التطور والتقدم، كل من موقعه، وحسب إمكاناته وقدراته، وهذا ما فعلته وتفعله الدول التي خاضت معركة التغيير وإعادة البناء تاريخياً، وفي جميع المجالات، وبهذا تكون عملية التطوير وإعادة البناء الفكري والثقافي في ظل الحفاظ على الهوية والانتماء الأداة الفاعلة للتطور والتقدم والنمو.
الأفكار الجديدة بين الناس في كل بقاع العالم، انتشرت عبر مواقع التواصل، ووسائل الاتصال المختلفة وأُلبست الحداثة ثوباً مختلفاً، تضمن داخله مذهباً أيديولوجياً جديداً للتغيير والتطور والتقدم، تحت ستار «الحرية» و»نشر الأفكار الديمقراطية» وجعل مسألة قبول الثقافة والهوية العالمية وتبنيها الوسيلة الوحيدة للتغيير والنهوض بالمجتمعات، والتخلص من عوامل ضعفها وتخلفها، وبدأت موجات ما يسمى «الثورات» تجتاح العالم بدءاً من الثورات المخمليَّة في أوروبا الشرقية، مروراً بالثورات الملوَّنة، وانتهاءً بمهزلة الربيع العربي، في وقت انعدم فيه وجود نخب ترفض ما يحصل وانساق القسم الأكبر تحت جناح ما حصل، فكانت النتيجة كارثيَّة على تلك الدول وشعوبها، ودفعت سورية وبعض الدول العربية الثمن الأكبر من وراء ذلك، وكانت النتائج فوضى عارمة طالت البشر والحجر.
وهو ما جعل أيضاً الإنسان في مجتمعاتنا مقطوعاً عن جذور ذاكرته الأصلية، وبسببها يدور في دوامة إعصار تاريخي، لم نشارك في صنعه قط، وأخطر ما نتعرض له إلى اليوم هو ظاهرة تضييع الذاكرة وإلغائها وفق عملية ممنهجة ومدروسة، للتخلي عن الجواهر الروحية، وتبني الميول والغرائز البدائية، ولذلك لابد من تكثيف حملات التوعية في كل المنابر الاجتماعية والثقافية والدينية والإعلامية لإعادة الأفراد الذين انساقوا خلف تلك الأفكار إلى رشدهم وزرع أفكار بديلة وذات قيمة قبل الضياع، وتمزيق ذلك الثوب الذي ألبستنا إياه تلك الدول فكان مرة فضفاضاً، ضاعت فيه شخصيتنا الحقيقية، ومرة ضيقاً منعنا من الحركة وكتم أنفاسنا.
العدد 1212 – 5 – 11 -2024