الثورة – علاء الدين محمد:
بأفكاره العميقة وأسلوبه الرائع يقدم الشاعر أوس أسعد تجربة شعرية مميزة في قصيدة النثر ، يبني قصائده على أساس من البناء الدقيق والإيقاع الخارجي والداخلي، فمن القصيدة الومضة إلى القصيدة ذات البناء السردي، ومن القصيدة الغرائبية إلى القصيدة ذات البناء الشبكي في تناغمات إيقاعية متوازنة، بين التوالد والتضاد، والتقابل ناهيك عن إيقاع البياض والتشكيل البصري وينتقل ببراعة ومهارة عالية بين الموضوعات، من الوطن إلى المرأة إلى العشق والحب والأرض والإنسان والهوية والانتماء، ملامسا أعماق النفس البشرية، مثيراً التساؤلات الكثيرة متنقلاً بالمتلقي مسافراً في متعة الاستكشاف والغوص في أعماق القصيدة.
بهذه الكلمات قدم الدكتور طارق العريفي من جامعة دمشق قراءته النقدية في تجربة الشاعر أوس أسعد الشعرية في ثقافي المزة بدمشق.
فقال: إن عنوان القصيدة كلمة مفتاحية للولوج إلى عمق التصوير الشعري (يدها المهدبة من كثره الضوء)وفي الخاتمة (اليد على المقبض)، وما بين هذا وذاك تفيض الصور في استحضار القاموس المحيط لبيان معنى المهدبة نجد حاشية مهدبة زخرف من قماش مهدب يستعمل لتزيين أعلى الباب وبذلك انزياحية هذه الصورة وفلسفتها الشعرية نجد أن اليد (المهدبة من كثرة الضوء) تستمطر (اليد على المقبض) وما بين ذلك المجاز وهذه الحقيقة فلسفة شعرية تغرينا بالغوص في أعماقها واستنباط جماليات الصورة الفنية في النص الشعري، وقبل أن نبدأ ننتبه إلى أن النص مليء برموز كثيره ظاهرة وخافية، ومنها أن النص لا يعرف من أين بدء لذلك نجده لا يضع رقما للمقطع الأول (الموريقات ذوات اللهب الأنيق بكعوبهن العالية.. يأتين من أول الريح يبعثرنا أرواحنا على الطاولة ..ثم يمضين المورقات) إحساس عال مرهف كيف يكون النهب أنيقا، إلا إذا أحببت أن هذا النهب نجد أننا أمام صورة مرسومة بدقة، رغم الاختزال الكبير في العبارة، فكأني بهذه الصورة الغامضة تقول: اللبيب تكفيه الإشارة ، لندقق في هذه الصورة المكثفة التي اعتمدت على المخزون الصوري في ذهن المتلقي وإثارة مستدعية الصورة كاملة وبكل ملامحها (بكعوبهن العاليه ..وكأننا بتلك الأرواح أوراق لعب تبعثرت على الطاولة) ولا يغيب عنا أن الموريقات المستمدة من الطبيعة هي معادل طبيعي لزواج النهب بكعبهن العالية ، ما قبل شروق التلة، لا يشرح التلة (النابت في شقوق الصخرة)
أوضح د.العريفي أن الكلام النابت لا يعني الدالية أننا أمام انزياح لغوي بل أنها انزياحات متتالية ، فالتلة هي التي تشرق وما قبل الشروق هو الذي يشرح والكلام ينبت في شقوق الصخرة ، وبذلك تتشكل لدينا صورة سياحية بالتاكيد ليست سوريالية فهي تجذبك إليها وتدعوك إلى محاولة لملمة هذه الصورة المبعثرة وصولا إلى الصورة الكاملة ..
(في استمالة عطرها أجلس الريح على مقعد في القصيدة) وإذ يسترسل المتلقي بذهنه جاريا وراء تلك الصور الحسية إلى عذوبة الصورة العذرية، فعشق الجسد وعشق الروح صنوان ويطغى الجسد لأنه ظاهر أمامنا ، أما الروح فلا تظهر إلا في النفس الشاعرة التي تحول نسائم عطر الجسد إلى قصيدة يعطره في لغة فلسفية (قبل العتمة والضوء قبل الرائحة وتفتح الصبابات قبل انبلاج الكلام أقصد نسيت )لم يعد غريبا لدى المتلقي مثل هذا التضاد العتمة الضوء أو الانزياح، تفتح الصبابات انبلاج الكلام هذا يعكس الحالة النفسية التي تتدفق بها الكلمات ، والتي تقف بها حائرة عاجزة عن الوصف ، كما يعكس جمالات البناء الفني للقصيدة من خلال بنيويتها ودلالتها الحقيبة.. المقبض.. (اليد على المقبض) الرائحة.. العتبة ..ما ينقص فقط الرغبة في السفر.. حيث يتخلى النص عن الانزياحات اللغوية ويشد المتلقي إلى الرموز الفنية التي تتضافر لترسم صورة فنيه عالية في تركيزها .. فلسفية في عمقها .. مغرقة في كثافتها واضحة في معناها بعد تحليل ألوانها وتعليل ارتباطاتها.
وفي الختام بين الدكتور العريفي أنها ليست قصيدة شعرية .. إنها سفر في أعماق النفس العاشقة المعذبة، حيث فاضت آلاما وأحزانا وعانت الشوق والرغبة وما هدأت عواصفها إلا بقرب من أحبت ، وهف القلب إليه ، لقد تنوعت القصيدة على المستوى الشعوري كما تنوعت في التشكيل الشعري ، وقد أدت تلك التنوعات دورا فنيا هاما في البناء الفني للقصيدة التي بنيت وفق نسيج فني متماسك من خلال تقنية الانزياح البنيوي التي تذهل المتلقي وتدفعه إلى تحليل العبارات كل صورة مستقلة في ذاتها ومفرداتها وألوانها، ومن ثم استنباط الصورة الكاملة، من خلال عملية تركيبية شعرية بنيوية فرضتها الوحدة الفنية للقصيدة ولا يمكن للمتلقي أن يقرأ كل مقطع ويصل إلى مغزاه وفحواه إلا من خلال عملية ربط محكمة تضفر المقطع الذي سبقه بالمقطع الذي يليه ومن خلال تلك الضفائر يستطيع ان يحلق في السماء الفني لإبداع القصيدة.