قبل عهد الرقمية كنا نستقي معلوماتنا، وتسلياتنا، وثقافة مجتمعاتنا من نبعٍ واحد موحد متمثلاً بوسائل الإعلام التقليدية من تلفزيون، وإذاعة، ومن الصناعات الثقافية المرخصة من صحف، ومجلات، كما السينما، والمسارح المنتشرة في المدن، ودون أن نملك خياراً سوى الرضا بما يقدم لنا.
كانت تلك هي النوافذ الرئيسية التي نطل منها على العالم، وهي أيضاً الوجهة الرئيسية لتجديد النشاط الروحي، والذهني، ولهذه المصادر تأثيرها الواضح على توجهات الناس، وأذواقهم، وطرق تفكيرهم. وذلك العصر هو بمثابة لوحةٍ فنيةٍ رسمها فنان بفرشاة واحدة وألوانٍ محددة، تاركاً للمشاهدين فرصةً محدودةً لتأويل ما يرونه.
كان العالم آنذاك يتسم بوضوح الرؤية، وضبط المصادر، فخيارات الحصول على المعلومات، والترفيه، محدودة ومركزة في مصادر بعينها تلعب دوراً محورياً في تشكيل الذوق العام، والاتجاهات الثقافية، والقيم السائدة داخل المجتمع. فهذه الوسائط الإعلامية المركزية صاغت ثقافة مشتركة تتقاسمها المجتمعات مادام الناس يتحدثون عن البرامج، والأفلام، والمسلسلات ذاتها، ويتشاركون الاتجاهات، والأذواق ذاتها أيضاً.
إلا أن هذا الوضوح، والانسجام الثقافي ما لبث أن بدأ يتحول مع ثورة التكنولوجيا الرقمية التي تفجر معها ينبوع المعلومات، وتدفقت المعرفة من كل حدبٍ وصوب وما رافقها من خيارات المعلومات، وأصبح العالم بأسره مكتبة مفتوحة للجميع. وتنوعت بالتالي مصادر التسلية بشكلٍ هائل، فظهرت ألعاب الفيديو، والتطبيقات الترفيهية، ومنصات البث المباشر، وغيرها كثير، لتُتيح للناس خياراتٍ لا حصر لها لقضاء أوقات فراغهم.
وبعد أن تشظت مصادر المعلومات والتسليات، وأصبح بإمكان أي شخص الولوج إلى محتوى رقمي لانهائي من مختلف أنحاء العالم، ما خلق فسيفساء منسجمة حيناً ومتنافرة أحياناً من الثقافات، والهويات، والتوجهات. وتضاعفت من جهة أخرى التأثيرات، وبرزت التناقضات، والاختلافات، وتبدلت ثقافة المجتمعات بعد أن كانت أمزجتها متقاربة لأنها تستقي مفردات الحياة من ينابيع متقاربة أيضاً.
ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصات الفيديو وازدهارها، بات بإمكان كل فردٍ أن يكون مصدراً للمعلومات والأفكار، وأن يشارك تجاربه وثقافته مع الآخرين، وأصبح من السهل عليه أن يحيط نفسه بمعلومات تؤكد آراءه المسبقة، وتعزز تحيزاته، دون أن يعرّض نفسه لوجهات نظرٍ مخالفة.
وبات المجتمع الرقمي أكثر تنوعاً، وتشعباً، ولكن هذا التنوع الفكري لم يأتِ دون ثمن فقد أدى إلى تفتتٍ في الرأي العام، واختلافٍ في وجهات النظر، وتباينٍ في الثقافات، والقيم بين أفراد المجتمع.. فبدلاً من ثقافة موحدة، برزت ثقافات فرعية متنافسة، متنوعة، ومتباينة، تزيد من تعقيد الرؤى، والتوجهات داخل المجتمع الواحد، كما الأسرة الواحدة.. وهذا ما أدى أيضاً إلى ظهور ظاهرة (غرف الصدى الرقمية) حيث يتجمع الأشخاص الذين يتشاركون الأفكار والمعتقدات داخل حيز مغلق عليهم ما يعيق الحوار، والنقاش البنّاء.
هذا التحول من وضوح المصادر، وتركزها إلى تشظيها، واتساعها أثّر بشكل جذري على طبيعة المجتمعات المعاصرة، وديناميكيات التفاعل فيما بينها.. فالتنوع الرقمي اللامحدود بات تحدياً كبيراً أمام إيجاد ثقافة مجتمعية متماسكة، وجعل من الصعب إرساء قواعد ثقافية مشتركة تجمع المجتمعات تحت مظلة واحدة.
في ظل هذا التشرذم الثقافي تصبح المجتمعات الرقمية أكثر عرضة للانقسامات، والصراعات الفكرية، والاجتماعية، والثقافة المشتركة التي كانت تجمع الناس في السابق غدت صعبة المنال في ظل هذا التنوع اللامحدود للمصادر، والتأثيرات. فالتحدي الحقيقي اليوم هو كيفية إيجاد سبل جديدة لبناء ثقافة مجتمعية منسجمة في الواقع الرقمي المتشظي. وهذا بدوره يتطلب جهوداً حثيثة لإعادة ترميم الروابط الاجتماعية، والقيم المشتركة التي تجمع المجتمعات كافة في مواجهة تحديات التنوع الرقمي اللامحدود.
ومع ذلك، تبقى للثورة الرقمية إيجابيات لا يمكن إنكارها، فقد ساهمت في نشر المعرفة بشكلٍ أسرع، وأوسع، وكسرت حواجز اللغة، والثقافة، وجعلت العالم مكاناً أكثر تواصلاً وتفاعلاً. ولعل أهم ما يميز هذا العصر هو أنه منح الفرد حرية الاختيار، والتحكم بمصادر معلوماته وتسلياته، ما يجعله مسؤولاً بشكلٍ أكبر عن تكوين آرائه، ومعتقداته. ففي زمن المعلومات اللامحدودة بات على كل فردٍ أن يمارس مهارات التفكير النقدي، وأن يُقيّم المعلومات بعقلٍ واعٍ، وأن يحاور الآخرين بانفتاحٍ واحترامٍ، لكي يسهم في بناء مجتمعٍ أكثر تنوعاً، وتسامحاً، وفهماً.
* * *