نضال بركات:
للمرة الأولى تتحرك منظمة دولية لمحاسبة “إسرائيل” على إجرامها, بعيداً عن العراقيل الأمريكية, فكانت مذكرتا الاعتقال اللتان أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، متهمةً إياهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، في خطوة تاريخية تمثل تحولًا فارقًا في مسار العدالة الدولية، التي لطالما وُصفت بأنها تستهدف “أعداء الغرب”، بينما اتجهت الآن ولأول مرة نحو محاسبة سياسيين مدعومين من قوى كبرى, وبينما يعزز هذا الحكم القضية الفلسطينية قانونيًا ودوليًا، ويغير قواعد اللعبة في معركة الرأي العام العالمي، فإنه يضع “إسرائيل” تحت ضغط سياسي وقانوني غير مسبوق.
إذا دققنا جيداً بالجرائم التي ارتكبها هذا الكيان منذ قيامه قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً نرى أن القوى الغربية خاصة الولايات المتحدة كانت تعرقل قرارات الأمم المتحدة ضد “إسرائيل”, لكن هذه المرة فإن قرار الجنائية الدولية أقلق ليس قادة الاحتلال وإنما الغرب بأسره بعد أن بات طوفان الأقصى طوفاناً عالمياً حرك الرأي العام العالمي وبقوة نصرة للقضية الفلسطينية, بينما قادة الغرب الذين يخضعون لأوامر الدولة العميقة لحماية “إسرائيل” كانوا يعرقلون أي تحرك للضغط عليها لإيقاف جرائمها منذ العام 1948 وحتى الآن, بينما كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول في مرحلة ما مختلفاً قليلاً في مقارباته، وكان رئيس وزرائه ميشيل جوبير موضوعياً ومتوازناً حين عاد إلى جذور الصراع مرة بقوله “هل هو اعتداء عندما يحاول أحدهم أن يعود إلى منزله” في إشارة غربية نادرة إلى عدالة القضية الفلسطينية, وهذا الموقف الفرنسي هو الوحيد بين القوى الغربية التي تتنكر للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والعدل وقيم الحرية وأسس العدالة الدولية, وفي نظرة الغرب ومواقفه وتصريحات قادته تكمن ازدواجية شديدة في المعايير، وإغفال صريح لروح القانون الدولي بكل أبعاده، وتمييز صارخ في النظر إلى الشهداء الفلسطينيين سواء أكانوا بالعشرات أم المئات أطفالاً أم نساء، والمجازر الجماعية الكثيرة بحق الفلسطينيين، وبين القتلى الإسرائيليين الذين يستحقون وحدهم الرثاء الغربي لدرجة أن البعض من قادة الغرب يتوجهون إلى إسرائيل تأييداً لمجازرها بحق الفلسطينيين وتكريس إسرائيل فوق المحاسبة والعقاب, وقد استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ما يقارب الخمسين مرة لإحباط قرارات مجلس الأمن ضد إسرائيل – وغالباً معها بريطانيا – وهذا ما شجع “إسرائيل” على ارتكاب المزيد من الجرائم منذ العام 1948 وحتى الآن والتي تعد أكثر من مئة مجزرة بشعة بحق الفلسطينيين وآخرها ما يجري حالياً من جرائم إبادة في غزة.
من المعروف بأن القرارات الأممية المتعلقة بحقوق الشعوب يجب أن تكون ملزمة، وأن تنطوي على إجراءات وعقوبات ضد الدول المعتدية.., وفي حالة كيان الاحتلال الإجرامي لم تنفذ القرارات المتعلقة بحقوق الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه المغتصبة، وهذه القرارات هي أكثر من 850 قراراً دولياً صادراً عن الأمم المتحدة ومؤسساتها ولجانها المختلفة.. كلها تقر الحقوق الفلسطينية التاريخية في فلسطين.. وتندد بالاحتلال الإسرائيلي وجرائمه المتعددة.. وتطالبه بالتوقف عن انتهاكاته المستمرة، غير أن كل هذه القرارات الملزمة منها وغير الملزمة أصبحت متراكمة على رفوف المنظمة الدولية، بعد أن رفضها الكيان وضرب بها عرض الحائط، أو بعد أن استخدمت الولايات المتحدة “الفيتو” ضدها, وفوق هذا الإجرام لم تقبل “إسرائيل” مبدأ الأرض مقابل السلام ولا السلام مقابل الأرض, وكان السلام متعثراً بدءاً باتفاقية كامب ديفيد عام 1979 إلى اتفاقية أوسلو عام 1993 وما تلاها، ولم تلتزم “إسرائيل” بكل بنود الاتفاقيات، واستباحت حتى الأراضي التي أعطيت للفلسطينيين بمقتضى ذلك الاتفاق.
وأمام هذا الإجرام التاريخي للكيان العنصري وعدم رضوخه للقرارات الأممية فإن مذكرتي الاعتقال لنتنياهو وغالانت تعد تحولاً كبيراً في قرارات محكمة الجنايات الدولية وخطوة شجاعة يعود الفضل الأكبر فيها لرئيسها القاضي كريم خان الذي لم يرضخ لكُلّ التّهديدات والضّغوط الأمريكيّة والصهيونيّة الجبّارة وحملات الابتِزاز القانوني والأخلاقي، ومضى قُدُمًا في إصدار المُذكّرتين, فسارعت الولايات المتحدة إلى إعلان رفضها لقرار المحكمة الذي وصفه الرئيس بايدن بالأمر الشائن, ليؤكد الدور الأمريكي في جميع الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” منذ قيامها وإلى الآن، فهل تعرقل واشنطن قرار المحكمة لاعتقال نتنياهو وغالانت ومحاكمتهما؟ هذا ما سيتبين خلال الفترة المقبلة في ولاية ترامب الرئاسية الثانية بعد دخوله البيت الأبيض في العشرين من شهر كانون الثاني.