في “دير ماما”.. صناعة الحرير الطبيعي تدهورت زمن النظام البائد فهل ننقذها من الاندثار؟

الثورة – تحقيق زهور رمضان:
تعتبر قرية دير ماما التابعة لمنطقة مصياف من محافظة حماة المركز الوحيد للحرير الطبيعي الصامد حتى يومنا هذا، فقد حافظ نساؤها- رغم قلتهن- على مهنة صناعة الحرير اليدوي الذي وصلت شهرته إلى خارج حدود سوريا، وبات علامة فارقة في المشغولات اليدوية السورية لزمن طويل.
– تراث تاريخي:
وقد ساعد المناخ المتوفر في قرية دير ماما على تهيئة البيئة اللازمة لتربية دودة الحرير من بدايتها حتى الوصول إلى مرحلة غزل الخيوط، بالإضافة إلى أن الخبرة المتوفرة لدى سيدات المنطقة ساهمت في على الحفاظ على هذه الصناعة المهددة بالانقراض والاندثار، وتعدُّ هذه الحرفة تراثاً تاريخياً للوطن.
صحيفة الثورة التقت ببعض المربين الذين مازالوا يحافظون على هذه المهنة للتعرف منهم عن كثب على الواقع الحالي الذي وصلت إليه تربية الحرير في القرية.

ذكرت المربية بثينة صارم أن قرية دير ماما تشتهر منذ مئات السنين بتربية دودة الحرير التي أصبحت حرفة متوارثة عند أبناء القرية، فقد توارثوها عن آبائهم وأجدادهم القدامى وتعلقوا بها روحياً ومعنوياً، وكانت مصدر دخلهم المادي ورزقهم الوحيد قديماً، ولكنهم تخلوا عنها مجبرين بعد تخلي النظام الفاسد عن دعم هذه الحرفة التراثية وإهمالها المتعمد.
– ارتباط روحي:
وبيَّن المربي محمد سعود لنا، بحرقة ولوعة، أن صناعة الحرير باتت مرتبطة بأرواحهم وحياتهم وذلك لتعلقهم بشجرة التوت وتربية دود الحرير المهنة التي حافظ عليها أجدادهم منذ عشرات السنين، بينما عمد الأهالي إلى اقتلاعها واستخدامها للتدفئة خلال فترة الأزمة التي عصفت بالبلاد وتسببت بغلاء مادة المازوت ناهيك عن صعوبة تأمينها، إضافة لعدم قناعة المربين من جدوى المحافظة على أشجار التوت التي تعتبر الغذاء الوحيد لدودة الحرير المسماة باللغة العامية والمحكية (دودة القز).
وأضاف سعود أنه حزين جداً على أشجار التوت التي تم اقتلاعها من قبل الأهالي، وذلك لفقدانهم الأمل بالحصول على دعم الجهات المعنية في وزارة الزراعة أيام النظام البائد.
– لن أتخلى عنها:
وتابع سعود أنه مازال محتفظاً بأشجار التوت في أرضه لأنه صاحب الحرفة، ووعد أنه لن يتخلى عنه مهما تغيرت الظروف، وقد كان لديه مشغل يدوي للحرير، ورثه عن والده وتعلم منه مهنة صناعة الحرير ويقوم فيه بتصنيع الشلل الحريرية للمربين بعد الانتهاء من موسم التربية، فهم يربون دود القز وينتجون الشرانق، ويبرمون خيوط الحرير بالمغزل أو يسحبونها باستخدام دولاب الحرير اليدوي ثم يرسلونها للحيَّاك، ولاحقاً ينسجون منها شالات الحرير حيث تحيك زوجته أم محمد الشالات والمناديل الحريرية ليبيعونها للراغبين.
– متحف الحرير:
وانطلاقاً من إيمانه العميق بمهنة تصنيع الحرير وتعلقه بها، فقد قام سعود بإنشاء متحف للحرير هو الوحيد على مستوى سوريا، يجسد فيه مراحل التربية والتصنيع كاملة، مطالباً مديرية السياحة بدعم صناعة الحرير وتشجيع السياح لزيارة متحف الحرير والاطلاع على جمال شالات الحرير الطبيعي ومنسوجاته والتعرف على مراحل تصنيع الحرير الطبيعي من ألفه إلى يائه.
– انخفاض الإنتاج:
وذكر المربي عيد الحسن أن مراحل تربية دودة الحرير وإنتاج القز ونسجه وحياكته كانت تتم بأجمعها لديهم، حيث كانوا يستلمون البيوض من مركز الكفير وهو مركز تفقيس للشرانق في الطور الثاني، ومن بعدها تسلم للمربي الذي يقوم بتربيتها لتصبح “قزاً”، مشيراً إلى أن أغلب منازل القرية قديما كانت تربي القز في حين أصبح عدد المربين معدوداً على الأصابع في الوقت الحالي الأمر الذي انعكس على حجم الإنتاج إذ وصل إنتاج دير ماما خلال تسعينات القرن السابق إلى 11 طناً من الشرانق لينخفض إلى تسعة أطنان في العام 2000، ويستمر الانخفاض إلى 3.1 أطنان عام 2009، ثم انخفض 2 طن عام 2010، بينما اقتصر الإنتاج على طن واحد لعام 2011 نظراً لعدم توافر المكان المناسب للتربية، وكذلك لاقتطاع معظم أشجار التوت في القرية.

– توقف الإنتاج 5 سنوات:
بينما أشار قيس عيد إلى أنه قبل بداية الثورة كانت تصل بذور دودة القز إلى سوريا من فرنسا وإيطاليا واليابان والصين، ثم انقطعت البذور ما أدى إلى توقف العمل بهذه المهنة لخمس سنوات، بعد ذلك عاد العمل بتربية دودة القز، حيث اعتمد الأهالي على بذور محلية مصنعة بمنطقة وادي قنديل في اللاذقية، لكنها كانت رديئة، لأن البذار المستوردة تنتج خمسة وخمسين كيلو من الشرانق، بينما تعطي المحلية خمسة عشر كيلو فقط، كما أن الخيوط الناتجة عنها غير سليمة أو جيدة.
– مهنة شاقة:
وشرح لنا المربي سليمان ناعم أنه لم يعد لديهم شجر توت، لأنهم قاموا باقتطاعه منذ سنوات، مرجعين السبب في ذلك إلى أنهم فقدوا الأمل سابقاً بدعم الجهات المعنية لهذه الحرفة لأنهم لا يعتبرون أن دود الحرير من المحاصيل الأساسية أو الإستراتيجية فلا يولوها الأهمية الكافية.
– الأسعار:

من المستغرب أن يحافظ سعر كيلو شرانق القز منذ منتصف الثمانينات حتى العام 2007 على حاله متراوحاً بين 210-250 ليرة سورية في أحسن حالاته ما يعادل (5-6 دولارات)، وهذا يعتبر ثمناً بخساً وغير مشجع على تربية دودة الحرير التي تعتبر ثروة اقتصادية للوطن ومصدر دخل للمواطن، ومن المهم جداً دعمهاً وتشجيعها، وبعد قيام الجهات بمحاولات مخجلة لدعم هذه الصناعة تم رفع سعر الشرانق إلى300 في العام 2009، ومن ثم 500 ليرة خلال العام 2011، ثم ارتفع في العام 2019 إلى 2000 ليرة سورية في محاولة يائسة من مديرية زراعة النظام البائد لإنعاش دودة الحرير، أما اليوم فقد وصل سعر الكيلو إلى 25 ألف، ولكن من المؤسف قد فات الأوان، فالعمل بات شاقاً جداً ويحتاج إلى عائلة بأكملها لمتابعة الأمور المتعلقة به، ناهيك عن عدم وجود فئة الشباب التي كانت تساعد في عمليات التربية وغيرها.
– طبيعة البيوت:
وعن مراحل صناعة الحرير، قالت تمرة محمود- إحدى السيدات اللواتي احترفن تربية دودة القز وحياكة الحرير: إن تربية دودة القز، تبدأ من بذور الشرانق الصغيرة التي تتغذى على ورق التوت لمدة أسبوع، حيث توضع الشرانق في غرفة نظيفة معقمة ذات تهوية خاصة، إضافة إلى المحافظة على درجة حرارة الغرفة التي لا تزيد عن 28 درجة، ونسبة رطوبة لاتقل عن 65 بالمئة.
وأضافت محمود أنه لا يوجد اليوم مؤهلات مناسبة لتربية دودة الحرير فقد كانت طبيعة البيوت قديماً مؤهلة للتربية، أما اليوم فلا يوجد مؤهلات مناسبة، إضافة لعدم توفر الكوادر المؤهلة للتربية، والأهم من ذلك كلها عدم رغبة المربين بالمتابعة لأنه لم تعد لديهم أراض مناسبة لإعادة زراعة التوت نتيجة استبدالها منذ سنوات طويلة بأشجار الزيتون والتين المثمرة مع عدم رغبتهم باقتلاعها والاستعاضة عنها بأشجار التوت لافتقادهم الأمل بالتسويق لعدم وجود سياحة.
– صعوبة التسويق:
تحدث معظم المربين عن وجود صعوبة في تسويق المنتجات والمنسوجات الحريرية لعدم قدرة المواطن على شرائها نظراً لسوء الأحوال المادية لدى الناس، فقد أصبحت الحياة صعبة والظروف قاسية، وكان اعتمادهم الأساسي على بيع منتجاتهم في المدن والأرياف التي اعتاد سكانها على ارتداء ولبس الزي الشعبي “العصبة”، أما اليوم فقد أصبح غالبية سكان المدن والأرياف عاجزون عن شراء واقتناء الشالات والمناديل الحريرية الطبيعية ويقتصر الشراء على المترفين من الأغنياء وبعض السياح الذين يعجبون بجمال هذه المنسوجات الحريرية.
– تراجع ملحوظ:
وقال رئيس مجلس بلدة دير ماما ياسر سلوم: إن إنتاج الحرير الطبيعي وصناعته اليدوية شهدا تراجعاً خلال العقدين الماضيين بشكل ملحوظ بين سكان البلدة، معللاً ذلك بانخفاض عدد أشجار التوت التي كان عددها يزيد على عشرات الآلاف بينما لا يتعدى اليوم المئات، إضافة إلى وجود ندرة في تسويق منتجات الحرير، مشيراً إلى أن أهمية الحرير الطبيعي لا تقل شأناً عن أي عمل تراثي يلزم الحفاظ عليه.
– استيراد 100 علبة بيوض:
وكان رئيس غرفة زراعة دمشق وريفها أيام النظام البائد، محمد إبراهيم جنن أعلن عن استيراد 100 علبة من بيوض دودة القز من الهند، كل منها تحتوي على 30 ألف بيضة من السلالات الأصلية والعالمية، على أن يتم توزيع علب البيوض المستوردة بشكل مدروس حينذاك على محافظات حماة، طرطوس، اللاذقية، في خطوة تهدف إلى إحياء صناعة الحرير في سوريا وتعزيز إنتاجه محلياً.
– كلمة أخيرة:
إذا كانت تربية دود الحرير لاتزال مرتبطة بأبناء قرية دير ماما وأهلها معنوياً ومادياً.. لذلك فهم يناشدون الحكومة السورية المقبلة المشكَّلة في ظل تحرير سوريا، ومعها المنظمات الدولية المعنية بالتراث الثقافي، بضرورة الاهتمام بمهنة دودة القز والحرير الطبيعي، وإيجاد الحلول المناسبة لإعادة إحياء هذه الثروة الوطنية في البلاد سواء بتهيئة أماكن مناسبة للتربية، أم إعادة غرس أشجار التوت بزيادة الأسعار لعلّ المربي يجد التشجيع المناسب له ليعود إلى التربية من جديد.
ويطالب الأهالي بالعمل على توفير بذار بجودة عالية وإقامة أنشطة لتسويق منتجاتهم، كي لا تصل مهنة الحرير الطبيعي إلى مرحلة الاندثار كما حدث سابقاً.
صحيفة – الثورة

آخر الأخبار
دخل ونفقات الأسرة بمسح وطني شامل  حركة نشطة يشهدها مركز حدود نصيب زراعة الموز في طرطوس بين التحديات ومنافسة المستورد... فهل تستمر؟ النحاس لـ"الثورة": الهوية البصرية تعكس تطلعات السوريين برسم وطن الحرية  الجفاف والاحتلال الإسرائيلي يهددان الزراعة في جنوب سوريا أطفال مشردون ومدمنون وحوامل.. ظواهر صادمة في الشارع تهدّد أطفال سوريا صيانة عدد من آبار المياه بالقنيطرة  تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه  بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي