الثورة – رنا بدري سلوم:
قلوب الشّعراء الصافية لا تزال تنبض مع كلّ حرفٍ ورويّ من حديثه، نستحضرها مع الشّاعر المتمرّد حبّاً وحريّة أنس الدّغيم فعنده لا يستقيم الحقد والشعر، كلاهما خير ورؤى إلى ما هو مشرقٌ، مهما غدر به ظلم الحقد في رجعيّة التفكير، وإن الشّعر من أعمال القلب الحر، ومن أعمال قلب الشّاعر الدغيم أنه يكتب بغضبٍ قصائده والشعر وهما يعدّان ذخائره.
لطالما قرأنا له، لشاعر ابن جرجناز في ريف معرة النعمان الأبيّة التي تركها جسداً ليصبح لاجئاً إبان الثورة، بقيت روحه تخطّ حبّ الهويّة والهوى، فاستقى دواوينه من نبض الثورة وما تكتبه دماء الأحرار وأفئدة الثوّار بدءاً من ديوان “حروف أمام النار” إلى ديوان “المنفى” و”الجودي” التي تضم القصيدة الشهيرة له والتي قرأها بعنفوانٍ في حوار مع تلفزيون سوريا برنامج “منازل القصيد..قلوب صافية” تقديم الإعلامي حسين الجنيد.. الحوار الذي رصدته صحيفة الثورة وكشف لنا الشاعر من خلاله ما لا نعرفه عن الدغيم وقد اعتدناه معدّاً ومقدّماً لبرنامج “شعراء العرب” لكن هذه المرّة كان ضيفاً دمثاً، شاعراً يستذكر الشعر ببصيرة نبيّ.
•الأنا والآخر
يعرّفنا الدغيم في قصيدته عن نفسه كشاعرٍ وصيدلانيّ للقلوب التي أنهكها حبّ الوطن واستوطنت مآذنه ليكون وحده صحوة الغافلين:
أكتبُ الشِّعرَ إنّ الشِّعرَ يكتبُني
فحينَ تقرأ شعري تقرأ الكبِدا
أنا الموزَّعُ في أوجاعِ خارطةٍ
تمتدُّ حتى إلى أن لا يظلِّ مدى
هناك عند حدودِ الصّينِ أزرعُني
قمحاً ليأكلَني في الغربِ مَن فقَدا
قلبي مشاعٌ لكلِّ النّازلينَ بهِ
كأنّه والدُ الدّنيا وما وُلِدا
لو أنّ شاةً بأقصى الأرض قد عثرَتْ
سُئلتُ عنها وذابتْ أضلُعي كمّدا
ومنذ قدّمتُ للرّحمنِ سنبلةً
جعلتُ روحي لكلّ الطّاعمينَ فِدى
فإن مددتَ يداً نحوي لتقتلني
كففتُ عنكَ لنحيا سالِمَينِ يَدا
قسّمتُ قلبي على مليارِ مئذنةٍ
فحيثما أذّنت أجزاؤهُ سجدا”.
•الشّعراء سلاطين القلب
من عناوين شعره ومقالاته وكتبه تدرك كم هو عاشقُ للحياة والحب والحريّة “مئة لافتة للحرية” و”مئة للحياة” و”سكر حجاز” و”المجالس”، نتصفحها تارةً وتارةً أخرى نستحضر مع”رئيس الجمعيّة الدولية للشعراء العرب” أنس الدغيم الشعر والشعراء وما يتشابهون به في مشاعرهم ويتفاوتون في تعبيرهم عنها بساعة كاملة على توقيت الشعر في حوار الحب والشوق والغزل والحزن والأخير
عند الدغيم يلازم شعره بإيقاعه المدوي، فكما وصفه بأنه سريع الولوج إلى القلب كالجواهري حين رثى زوجته، مستشهداً بالكثير من أبيات الشعر لشعراء الأدب العربي القديم والحديث فكان الحوار معه أشبه بروضة غنّاء لا تمل من المشاهدة وأنت تقلّب صفحات الشعراء وقصصهم ومنبت قصائدهم في الحّب والتسامح والمغفرة والعفو، تلك القيم الإنسانيّة جمعاء التي يكون الشّعراء فيها دون استثناء سلاطين القلب، أتوا الله بقلب سليم، يكتبون العاطفة بنبض القلب لا بعقولهم، فالعقل عند الدغيم إذ دخل القصيدة بشكل مباشر جرّدها من صورها الشعريّة، والحب عنده نور ولعلّنا نغسل قلوبنا حمّالة الأحقاد والضغائن، علّنا نتوضأ بالحّب ذاك العلم القيّم الذي وجب تعلمه، ذاكراً الشّافعي وما كتبه في الحلم والتأنّي والصبر والصفاء فالإنسان الصافي عند الدغيم أقوى من المشوّه بالحقد والحسد، هي فلسفة خاصة تأثّر بها وبالشاعر إيليا أبو ماضي رشيد سليم الخوري “القروي” والأحنف ابن قيس وغيرهم. مؤكداً أن النفوس الكبيرة لا تستقم مع النفوس المريضة، والعفو أعظم من الذنب في شتى حالاته وقد صوّر الشعر العربي القديم والحديث الكثير من الحالات التي ينتصر فيها العفو على العقاب والثأر، وإن لصفاء القلب والذهن والعقل سلطتهم الحكيمة.
•سنحيا عطراً وقافية
تصدّر فرسان الكلمة ذاكرة الدغيم في حلقة تلفزيونيّة كانت غنيّة بمآثر الحبّ في قصائدهم، فكان الحوار حوار القلب والروح بسوية واحدة بين مقدمٍ وشاعر كلاهما أمسك قلوبنا إلى حيث يشاء الهوى بثقافة أدبيّة عالية وفصاحة بليغة وأسلوب متقن وجذّاب، فختم الإعلامي الجنيد الحلقة كما بدأها بالحب بقصيدة للشاعر الليبي محمد المزوغي مقتبساً من إحدى جماليّات الشاعر محمود درويش «لا وقت لديَّ لأكره مَنْ يكرهني، فأنا مشغولٌ بحُبِّ مَنْ يُحِبُّنِي» ومن هذه العبارة نسج صورة شعريّة متكاملة جسّدها في قصيدته “لاَ وَقْتَ لِّلكُرْهِ” يقول فيها: لا وَقْتَ لِلكُرْهِ عِنْدِي
لاَ مَكَانَ لَهُ
بِالحُبِّ قلبي وَبِالغُفْرَانِ مَشْغُولُ
زادي لِكُلِّ يَدٍ تَحْتَاجُ أَبْذُلُهُ
وَلِي إِنَاءٌ كَوَجْهِ الصُّبْحِ مَغْسُولُ
هَلْ تَمْلِكُ الشَّمْسُ إلاَّ الضَوْءَ تُرْسِلُهُ
وَهَلْ سِوَى المَاءِ عِنْدَ النَّبْعِ مَبْذُولُ
لا خِنْجرٌ بِيَدِي يَا مَنْ تَرَصَّدَنِي
لِيَطْعَنَ الظَّهْرَ حِقْدٌ مِنْهُ مَسْلُولُ
لاَ يَتْرُكُ الوَرْدُ فِي أَثْوَابِ قَاطِفِهِ
إلاّ الشَذَا وَهْوَ فِي كَفِّهِ مَقْتُولُ
يَسْمُو عَنْ الحِقْدِ مَنْ تَعْـلُو الحَيَاةُ بِهِ
لاَ يَنْفَعُ الحِقْدَ تَفْسِيرٌ وَتَأْوِيلُ
كُلُّ المَفَاتِيحِ مِنَّا اليَوْمَ ضَائِعَةٌ
وَكُلُّ دَرْبٍّ إِلَى الأَبْوَابِ مَجْهُولُ
شَيءٌ مِنَ الحُبِّ كَمْ نَحْتَاجُ..!
بَارِدَةٌ فِينَا الأَحَاسِيسُ يَا نَحْنُ التَمَاثِيلُ
شَيءٌ مِنَ الحُبِّ يَا أَهْلِي نَلُوذُ بِهِ
قَدْ جَاءَ بِالحُبِّ قُـرْآنٌ وَإِنْجِيلُ
هَذَا اِبْنُ عُبَادَ فِي أَغْمَاتَ يَكْتُبُ لِي:
المُلْكُ للهِ وَالدُنْيَا أَبَاطِيلُ
المَرْءُ مَا لَمْ يَكُنْ حُرّاً فَلاَ أَحَدٌ
وَالشِعْرُ مَا لَمْ يَكُنْ حُبّاً فَتَضْلِيلُ
إِنِّي وَهَبْتُ دَمِّي لِلأَرْضِ تُنْبِتُنِي
حَبَّاً لِتَأكُلَهُ الطَيْرُ الأَبَابِيلُ
غَدَاً سَنَحْيَا هُنَا عِطْراً وَقَافِيةً
يَزْهُو بِنَا الوَرْدُ أَوْ تَزْهُو المَوَاوِيلُ
نُضِيءُ بِاللهِ
لاَ شَمْسٌ وَلاَ قَمَرٌ
هَيْهَاتَ تَخْبُو لَنَا يَوْماً قَنَادِيلُ”.
#صحيفة_الثورة