الثورة – متابعة جهاد الزعبي
شكلت إرهاصات ثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر حافزاً لدى الشعب السوري لإطلاق شرارة الأمل بالتغيير، ضد نظام الأسد الاستبدادي الذي دام لنحو 54 سنة، لم تكن شرارة الثامن عشر من آذار عام 2011 في محافظة درعا سوى تتويجاً جريئاً من شباب وأطفال المحافظة الذين كتبوا أول حروف الثورة على جدار مدرسة بنين درعا البلد “إجاك الدور يا دكتور”، وهنا بدأ التغول الأمني والقمع الدموي الذي لم يقبل به أهل درعا حين قالوا: “يلي بيقتل شعبو خاين”، وبدأت شرارة الثورة تتوسع حتى شملت مناطق سوريا جميعها، ففي الذكرى الأولى بعد سقوط النظام البائد، لا بد لنا من تسليط الضوء على أبرز مسارات الثورة ومآلاتها والتضحيات التي قدمها السوريون في سبيل حريتهم وكرامتهم.
المسار الأول للثورة
في البدايات كانت الثورة سلمية، وحمل أهل درعا وبقية المحافظات أغصان الزيتون والورود تعبيراً عن سلميتهم، ولكنهم جوبهوا بالرصاص والقتل والاعتقال التعسفي لمجموعة من الأطفال، واستشهد الطفل حمزة الخطيب بعد تعذيبه بوحشية، حين ذلك احتشد الناس تحت شعارات مثل: “حرية وكرامة” و”الشعب يريد إصلاح النظام”، مما عكس رغبة الشعب في إنهاء القمع والظلم، ولكن النظام المجرم أصر على القتل واستخدام العنف والقوة العسكرية المفرطة.
انطلاق الاحتجاجات
بدأت الأحداث في درعا بعد حادثة حساسة تسببت في استثارة الغضب الشعبي، فقد أُبلغ عن اعتقال أطفال وفتيان لمجرد كتابتهم لشعارات تحفيزية على جدران مدرسة بنين درعا البلد، واتهموا الطفل نايف الرشيدات أبا زيد فيها ورفاقه، وتم اعتقالهم وتعذيبهم، هذا التصرف الذي اعتبر رمزاً لعدم قدرة النظام على تحمل مطالب الشعب دفع الأهالي إلى التحرك، فخرجوا إلى الشوارع مطالبين بالإفراج عن المعتقلين وإحقاق العدالة.
بداية الحراك
كانت البدايات في درعا بشعارات مثل: “حرية وكرامة” و”الشعب يريد إصلاح النظام”، حيث جسدت هذه الهتافات تعبيراً عن آمال الشعب في إنهاء الاستبداد الأسدي والتغيير الجذري، وكان للمظاهرات طابعٌ جماعي يعكس روح الوحدة بين المواطنين.
تعبير عن إرادة الشعب
بالرغم من محاولات النظام قمع الاحتجاجات بالقوة المفرطة والقتل، استطاع الشعب السوري أن يثبت أنه يمتلك وعياً جمعياً عميقاً، فقد كانت مظاهرات “جمعة الكرامة” والاعتصامات وسيلة لإظهار رفضهم للظلم ودعوتهم لإحداث تغيير حقيقي في هيكل الدولة.
جمعة الكرامة
لعبت أيام الجمعة دوراً محورياً في تنظيم الاحتجاجات، إذ أصبحت “جمعة الكرامة” رمزاً لليوم الذي يُعبر فيه المواطنون عن رفضهم للظلم، فلم تكن تلك الاحتجاجات مجرد تجمعات عابرة، بل كانت تعبيراً عن وعي شعبي متأصل، حيث استخدم الناس الاعتصامات والمناداة الجماعية كوسيلة لإظهار رفضهم للعنف والقمع الذي مارسه النظام المجرم.
التواصل والتنظيم
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر صور وفيديوهات الاحتجاجات، مما عزز من شعور التضامن والوحدة بين السوريين، وساعدت تلك الوسائل على تخطي محاولات النظام لتشويه صورة الاحتجاجات السلمية واتهامها بأنها مثار فتن طائفية أو مؤامرات خارجية، في الوقت الذي لم تكن أحداث درعا منعزلة عن واقع البلاد، فقد كانت نتيجة تراكمات لسنوات من الاستبداد والقمع منذ عقود، مما أدى إلى تراكم الإحباط والغضب بين أفراد الشعب السوري، إذ كان الناس يعيشون تحت وطأة سياسات النظام المجرم التي قللت من فرص المشاركة السياسية وحطمت تطلعاتهم نحو العدالة الاجتماعية.
النظام والقمع
حاول النظام في البداية إحباط هذا الحراك عبر استخدام القوة المفرطة والاعتقالات الجماعية، إلا أن هذا القمع الوحشي لم يكن إلا دافعاً إضافياً لتوحيد صفوف الشعب، مما جعلهم حركة شعبية سلمية تحاول إرساء أسس الديمقراطية والإصلاح السياسي.
لقد كانت هذه الاحتجاجات بمثابة شرارة الثورة التي ألهبت بقية المدن السورية، وانتشر الوعي بأن الشعب هو صاحب الحق في تقرير مصيره.
الهوية الوطنية
لقد عبّر الشعب السوري بمختلف شرائحه ومكوناته عن إرادته الوطنية الثابتة في إنهاء نظام استبدادي دام لعقود، مما أكسبه شرعية داخلية ودعماً متزايداً من مختلف فئات المجتمع، وأصبح ذلك الحدث بمثابة رمز للمقاومة السلمية التي كانت لها جذور عميقة في التاريخ السوري، وفي المجمل، مثلت بدايات الاحتجاجات وانطلاق شرارة الثورة في درعا نموذجاً للثورة الشعبية التي انطلقت من وعي جماعي وشعور بالظلم المتراكم، حيث انطلق المواطنون في مسيرة سلمية طالبت بالحرية والكرامة والعدالة، وكان لهذه المرحلة أهمية كبرى، لأنها أرست الأسس التي استندت إليها المراحل اللاحقة من الثورة، وساهمت في بناء الوعي الوطني الذي ظل نبراس النضال ضد القمع والاستبداد.
المسار الثاني
وهنا تحول الاحتجاج السلمي إلى مقاومة مسلحة لردع العدوان، وتحولت بعض مظاهرات الاحتجاج السلمية إلى مقاومة مسلحة، وانشق بعض ضباط الجيش وانضموا إلى صفوف الثوار، ما أدى إلى تشكيل وحدات مثل “لواء الضباط الأحرار” و”الجيش السوري الحر”، لتصبح في مواجهة النظام سلاحاً للدفاع عن الحقوق.
التدخلات الخارجية وتعقيد المشهد
وهنا دخلت على خط الأزمة عدة عوامل داخلية وخارجية؛ فقد شاركت قوى إقليمية ودولية ما زاد من تعقيد الصراع وإطالة أمده، ورغم هذه التدخلات، بقي الهدف الأساسي هو إسقاط النظام وإنهاء استبداده، وبالتالي كانت النتائج التالية:
1. تصاعد القمع والعنف من قبل النظام البائد، واستخدام أساليب القمع الوحشية، ومع استمرار الاحتجاجات في عدة مدن، لم يكتفِ النظام بالرد اللفظي أو التحذيرات، بل لجأ إلى استخدام القوة المفرطة، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية والتعذيب والقتل العلني للمتظاهرين.
وقد أثار هذا القمع ردة فعل قوية في صفوف الشعب، إذ شعر المواطنون بأن الوسائل السلمية لم تعد كافية للدفاع عن حقوقهم الأساسية، ما زاد من حدة الغضب الشعبي.
2. السلاح للدفاع عن النفس، أدت الممارسات القمعية إلى شعور بعض ضباط الجيش بالعجز أمام أساليب النظام واستمرار القمع، فقرروا الانشقاق عن صفوفه، وهذا التحول العسكري كان رد فعل على الواقع الذي فرضه النظام، إذ أدرك هؤلاء أن التمسك بالنضال السلمي لن يؤدي إلى تحقيق التغيير المنشود.
المقاومة المسلحة
من بين النتائج المباشرة لذلك، برزت وحدات، مثل: لواء الضباط الأحرار، ولواء فجر الإسلام، ولواء المعتز بالله، ولواء فلوجة حوران، وجيش اليرموك، وغيرها من الفصائل الإسلامية المسلحة في مختلف مناطق سوريا، ومع مرور الوقت، تطورت هذه الفصائل وخاضت معارك عنيفة ضدّ عصابات النظام وتم تحرير مساحات كبيرة من الأراضي والمدن والبلدات في مختلف محافظات سوريا، وقد اعتمدت هذه الفصائل على أساليب قتالية متقدمة للدفاع عن الأراضي المدنية ومواجهة الهجمات النظامية، ما سمح لها بالتصدي لعصابات الأسد، حتى وإن كانت الإمكانيات العسكرية محدودة.
3. التدخلات الخارجية: مع تحول الاحتجاجات إلى مواجهة مسلحة، دخلت قوى إقليمية ودولية إلى المشهد.. هذه التدخلات زادت من تعقيد الصراع، حيث تحول الميدان السوري إلى ساحة لصراع متعدد الأطراف، يتداخل فيه الدعم العسكري والسياسي من خارج البلاد مع النضال الداخلي للشعب السوري.وعلى الرغم من تدخلات الجهات الخارجية وتنوع مصالحها، ظل الهدف الأساسي ثابتاً وهو إسقاط النظام وإنهاء الاستبداد، مما جعل مسار المقاومة المسلحة هو السبيل الوحيد للدفاع عن الحقوق وإنقاذ الشعب من ممارسات القمع المستمرة.
وهنا يمكننا القول: إن التصعيد الوحشي في قمع الاحتجاجات أدى إلى تغيير طبيعة النضال السوري، حيث انتقل من الاعتصامات السلمية إلى مواجهة مسلحة شاملة، هذا التحول لم يكن خياراً مُتخذاً بسهولة، بل كان نتيجة حتمية لعدم وجود فضاء سياسي يتيح الحوار والمصالحة مع نظام استبدادي يمارس العنف ضد أبنائه.
3. المسار الثالث، ويشمل تحقيق النصر والتحول السياسي، في المرحلة الثالثة من النضال السوري، حيث وصلت مسيرة الثورة إلى ذروتها العسكرية والسياسية التي حققت تغييراً جذرياً في المشهد الوطني.
العمليات العسكرية الحاسمة
بعد سنوات من الصراع المسلح والتحديات المتعددة، شهدت سوريا سلسلة من العمليات العسكرية المكثفة تحت اسم ردع العدوان التي استمرت 11 يوماً، وتميزت هذه العمليات بالتخطيط الاستراتيجي والتنفيذ السريع الذي مكّن الثوار من تحرير مناطق حيوية وإستراتيجية في البلاد، وقد وصلت قوات ردع العدوان إلى قلب العاصمة دمشق بعد سلسلة من المعارك التي استهدفت نقاطاً محورية في المدينة، ما أدى إلى تفكيك شبكة السيطرة النظامية في تلك المناطق.
هذا الإنجاز العسكري لم يكن مجرد نصر ميداني، بل كان بمثابة كسر نهائي لهيمنة النظام على العاصمة، وأدى في النهاية إلى هروب المجرم بشار الأسد من سوريا في 8 ديسمبر 2024.
ردود الفعل الدولية والإقليمية
هذه العملية العسكرية كانت مفاجأة إستراتيجية بالنسبة للعديد من الأطراف الدولية، أثبتت أن الإرادة الشعبية والإصرار العسكري قادران على مواجهة النظام حتى وإن كانت الإمكانيات العسكرية غير متكافئة مقارنةً بآليات القمع.
بداية مرحلة انتقالية مع سقوط النظام البائد
بدأ الشعب السوري بالاحتفال بذكرى انطلاق الثورة لأول مرة من دون أي قيود، وباتت الفرصة متاحة لإرساء قواعد دولة مدنية ديمقراطية مبنية على العدالة وحقوق الإنسان.
تحول سياسي جذري
يعتبر هذا النصر بداية مرحلة انتقالية حاسمة، فقد فتح السقف أمام إعادة بناء الدولة السورية على أسس مدنية وديمقراطية تضمن حقوق الإنسان، وتعمل على إنهاء إرث الاستبداد الذي طال أمده.
ختاماً..
لقد كانت الثورة السورية قصّة كفاح طويل ومؤلم، جمعت بين النضال السلمي والمقاومة المسلحة، وكانت بمثابة رد فعل على استبداد طويل الأمد، وبفضل التضحيات الكبيرة وإرادة الشعب التي لم تنثنِ، تحقق النصر في 8 كانون الأول 2024، مما أتاح للشعب السوري فرصة إعادة كتابة مستقبل وطنه على أسس الحرية والعدالة رغم أن الطريق أمام سوريا لا يزال مليئاً بالتحديات، فإن تجربة الثورة تُظهر أن إرادة الشعوب قادرة على إحداث تغيير جذري حتى في أحلك الظروف.هذا النصر ليس نهاية المطاف، بل هو بداية مرحلة انتقالية يجب أن تبنى على وحدة الشعب، وإرساء دولة مدنية ديمقراطية تضمن حقوق الإنسان وتحقق السلام والمصالحة الوطنية، لتكون سوريا نموذجاً يحتذى به في التغلب على الاستبداد وبناء مستقبل أفضل.