أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي:
جاء توقيت إعلان “إسرائيل” عن استعادة أرشيف الجاسوس “إيلي كوهين” من سوريا بعد ستة عقود من إعدامه ليفتح الباب أمام كم كبير من التساؤلات، عن (أهمية وتوقيت وهدف) كيان الاحتلال من إخراجه الحدث للعلن، لاسيما أنه يأتي في لحظة يُعاد فيها تأهيل دمشق إقليمياً، بالتوازي مع تصاعد السخط ضد “نتنياهو” داخلياً، وتزايد الانتقادات له بسبب إدارته لحرب غزة، والأزمات السياسية والاحتجاجات المتصاعدة ضده.
قد يحمل هذا الإعلان في طياته رسالة غير مباشرة مفادها أن “إسرائيل ما زالت تملك نفاذاً إلى عمق “الدولة السورية”، وربما أرادت الإيحاء بأن بعض المؤسسات لا تزال مخترقة أو ضعيفة، لكن الواضح أن هذا الإعلان يخدم “نتنياهو” إعلامياً، ويستخدم كرسالة سياسية تجاه سوريا، وكسلاح نفسي داخلي وخارجي في لحظة متوترة إقليمياً، فـ “النصر الاستخباراتي” هو قبل كل شيء نصر رمزي إعلامي يُراد له أن يغطي على الأزمات الحقيقية التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية اليوم.
أيضاً فإن “إسرائيل” تستخدم الأرشيف كـ “سلاح معنوي” لفرض سردية مفادها أن سوريا ما بعد الأسد ما زالت بحاجة إلى إعادة بناء مؤسساتي عميق، في وقت تسعى فيه دمشق للانفتاح عالمياً بالتوازي مع الاحتواء الخليجي والتركي والموقف الأميركي المفاجئ لإسرائيل، ما يجعلها في موقع توجس من أن أي انفتاح سياسي قد يُقلص هامش تحركها في سوريا.
لا يمكن عزل الإعلان الإسرائيلي حول استرجاع “أرشيف كوهين” عن السياق العام الذي تعيشه المنطقة، بل بالتأكيد هو جزء من استراتيجية “إعادة تدوير الرموز” لتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية، ولتثبيت سردية إسرائيلية أمام جمهورها الداخلي، في لحظة تتسم باضطرابات سياسية داخلية، وتغيرات إقليمية تهدد تفوقها التاريخي في السرديات الأمنية والدبلوماسية.
فاستعادة أرشيف “كوهين” يُسوّق اليوم في الداخل الإسرائيلي كـ”عملية استخباراتية تاريخية”، ما يمنح “نتنياهو” مكسباً أمام الرأي العام الإسرائيلي ويعزز صورته كزعيم حريص على استعادة “كرامة الدولة” وأسرارها المفقودة، بالتوازي مع تراجع شرعية إسرائيل الدولية، بسبب حرب غزة، وبالتالي هي تحتاج إلى “نصر جانبي” لتحسين مزاج الرأي العام الداخلي.
ترافق الإعلان مع تقارير عن لقاءات أمنية سرية بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، وهو ما قد يشير إلى أن إسرائيل تريد استخدام ورقة “كوهين” كإشارة رمزية أو اختبار للنوايا السياسية لدى دمشق الجديدة بعد سقوط النظام السابق، وإرسال رسالة ضمنية مفادها: “نملك معلومات، وقد نستثمرها تفاوضياً”.
ولا يستبعد أن يكون الإعلان تمهيداً لنوع من “جسّ النبض” تجاه السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس “أحمد الشرع”، وقد يُطرح الملف لاحقاً ضمن تفاهمات أو مقايضات تتعلق بالمفقودين، أو حدود الجولان، أو حتى إعادة رسم خرائط النفوذ في الجنوب السوري، حيث إن معلومات تقول: إن الوثائق حصلت عليها “إسرائيل” عام 2018، تزامناً مع إعلانها استعادة ساعة كوهين الشهيرة، لكنها أرادت اليوم إعادة الترويج للموضوع كإنجاز جديد لدولة الاحتلال.
في الطرف المقابل، يرى مراقبون أن الهدف من الإعلان هو تشتيت الانتباه عن الإخفاقات الأمنية والسياسية، فإسرائيل تعرضت في السنوات الأخيرة لهزّات أمنية واستخباراتية، كان أبرزها اختراقات سيبرانية واتهامات بتقصير أمني على حدود غزة ولبنان مع بدء معركة “طوفان الأقصى” وبالتالي، تسويق عملية “كوهين” يُعاد من خلالها رفع معنويات أجهزة الاستخبارات.
ودأبت “إسرائيل” على استخدام “رمزية كوهين” في السردية الصهيونية، حيث يتم “أسطرته” في الثقافة الصهيونية (مسلسلات، متاحف، متاحف افتراضية)، والعودة إلى أرشيفه الآن تُستخدم لتثبيت صورة “البطل القومي”، خاصة لجيل جديد ربما لا يعرف القصة، وهي جزء من هذه العودة يتعلق بتعزيز شعور الأمن القومي، وتذكير المجتمع الإسرائيلي بمبررات استثنائية لوجوده وتماسكه، خاصة في بيئة إقليمية يُعاد فيها تعريف التحالفات.
كذلك تعمل “إسرائيل” على إعادة إحياء صورة “كوهين” في الوعي العام، فهو يمثل رمزاً استخباراتياً مركزياً في الذاكرة الإسرائيلية، وإعادة تسليط الضوء عليه يخدم إسرائيل في تعزيز رواية “الاختراق والتفوق الأمني” في لحظة اضطراب داخلي وتراجع الثقة بالمؤسسات، وهذا يشمل أيضاً التأثير على الرأي العام الدولي، بتذكير العالم بمدى “خطورة” المنطقة، وبتاريخ إسرائيل في مواجهتها، كنوع من تعزيز سردية الأمن القومي الإسرائيلي.
منذ عقود و”إسرائيل” تعمل على إظهار “كوهين” كـ “”بطل كامل”، إلا أن الثابت أنه لم يستطع خداع جميع المسؤولين الكبار في سوريا، وكان يحس بقرب نهايته، وتحدث إلى زوجته عن ذلك، كما ظهر مدى خوفه على حياته أنه قرر في آخر زيارة له لإسرائيل في عام 1964، عدم العودة إلى دمشق، إلا أن رؤساءه أقنعوه بمواصلة المهمة الموكلة إليه.
وفي استثمار بدا واضحاً من أتباع نظام الأسد، محاولتهم استغلال الحدث لتخوين السلطة الجديدة، واتهامها بالعمالة لـ “إسرائيل” بعد سقوط أسدهم الممانع والرافض لسنوات إعطاء “إسرائيل” رفات “كوهين” وفق تعبيرهم، يجب التذكير إلى واقعة تحدي “كوهين” للقضاة أثناء محاكمته ومقولته الشهيرة بأن “أنصاره من الضباط السوريين لن يسمحوا بإعدامه”. والمفارقة التاريخية بأن أحد أول قرارات “حافظ الأسد” بعد انقلابه بفترة قصيرة كان اعتقال اللواء “صلاح الدين الضللي”، رئيس المحكمة العسكرية التي أصدرت حكم الإعدام على كوهين، وسجنه سنوات، وكان الضللي قد قال في حديث صحفي في 22 آذار 2004، إن كوهين لم يكن سوى “جاسوس عادي”.