سلطان الكنج – كاتب وصحفي:
منذ بدايات تأسيس الدولة الأموية في دمشق، بدأت تتشكل ملامح علاقة معقدة بين الشام والعراق.
استقرّ معاوية بن أبي سفيان في دمشق وأسس أول سلالة ملكية في تاريخ الإسلام، بينما ظلّ العراق، بثقله في الكوفة والبصرة، مركزاً للمعارضة والاضطراب.
أظهر العراقيون ميلاً أقلّ للولاء للأمويين، ونزوعاً أكبر للثورة والتمرد، حتى غدا العراق مسرحاً للانتفاضات الكبرى ضدّ السلطة المركزية، ومع مرور الوقت، تعمّق التنافس على السلطة والنفوذ بين الشام والعراق، ورغم أن بغداد لم تكن قد تأسست بعد، كان العراق بحواضره الكبرى الحاضنة الرئيسة للحركات المعارضة، ففي منتصف القرن الثاني الهجري، انطلقت الثورة العباسية من خراسان، لكنها اعتمدت على دعم قوى في الكوفة والحيرة، مدفوعة بشعور عميق بأن الأمويين باتوا غرباء عن الأمة الإسلامية.
وفي عام 132هـ، سقطت دمشق إيذاناً بنهاية العهد الأموي، وبداية عصر جديد نُقلت فيه عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد التي بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.
طوال القرون اللاحقة، ظلّت العلاقة بين دمشق وبغداد تخضع لمعادلات دقيقة من المصالح والتحالفات والصراعات غلب عليها طابع الخصومة، بل العداء أحياناً.
وعندما ظهر حزب البعث العربي الاشتراكي في القرن العشرين، بدا أن التاريخ يعيد نفسه بطريقة حديثة، حيث تأسس الحزب على حلم الوحدة العربية، لكنه انقسم إلى جناحين: بعث سوري وآخر عراقي، وسرعان ما تحوّل الحلم إلى صراع مرير على السلطة، فعلى الرغم من وحدة الفكر، كانت الحسابات الإقليمية، والطموحات الشخصية لشخصيات مثل صدام حسين وحافظ الأسد، كفيلة بجعل الوحدة حلماً بعيد المنال.
بلغت الخصومة ذروتها بين العراق والشام في العصر الحديث بعد سيطرة البعث على السلطة في البلدين؛ ففي العراق، قاد البعث انقلاب 8 شباط 1963 ضدّ عبد الكريم قاسم بمساعدة عبد السلام عارف، لكن سرعان ما أقصى عارف البعثيين من الحكم، ليندلع الصراع الداخلي بين جناحي البعث العسكري والمدني، الممثلين بأحمد حسن البكر وحردان التكريتي من جهة، وطالب شبيب وعلي السعدي وحازم جواد من جهة أخرى.
وفي سوريا، قاد حزب البعث انقلاب 8 آذار 1963، لكنه سرعان ما شهد صراعاً بين حافظ الأسد وصلاح جديد، انتهى بانتصار الأسد وهيمنته على السلطة بالحديد والنار، امتدّ هذا الصراع إلى الحزب الذي انقسم إلى بعث سوري ذي نزعة يسارية، وبعث عراقي بميول يمينية، وتكررت المكائد والدسائس بين الجناحين، حتى بلغت القطيعة التامة بوصول صدام حسين إلى الحكم عام 1979.
أقدم صدام حينها على تصفية البعثيين الموالين لسوريا بذريعة التآمر مع حافظ الأسد في ما عُرف بـ”مجزرة قاعة الخلد”، التي بُثّت وقائعها على التلفزيون العراقي، ولا تزال حاضرة في ذاكرة العراقيين بين مؤيدين ومعارضين.
تحوّل الصراع من تنافس حزبي إلى مواجهة بين دولتين، إذ شنّ كلّ طرف حرباً إعلامية شرسة ضدّ الآخر، كانت الغلبة الإعلامية للعراق، الذي وظّف المال لاستقطاب صحفيين عرب معروفين، بينما لجأ أنصار البعث السوري من العراقيين إلى دمشق بدعم مباشر من حافظ الأسد، الذي فتح لهم المكاتب ومنحهم مواقع في “القيادة القومية” للحزب في سوريا. بالمقابل، احتضنت بغداد أنصار البعث العراقي المنفيين عن سوريا ومعهم أعداد من القوميين العرب المؤيدين للبعث العراقي، وكان من بينهم حسين الشرع، والد الرئيس السوري أحمد الشرع.
الحرب العراقية الإيرانية: فصل جديد في الخصومة
في أيلول/سبتمبر 1980، اندلعت أطول حروب القرن العشرين بين العراق وإيران، وقفت معظم الدول العربية، خصوصاً الخليجية منها، إلى جانب العراق، غير أن بعث سوريا اختار الوقوف إلى جانب إيران ضدّ رفاقه المفترضين في حزب البعث، متخلياً عن شعارات الحزب التقليدية مثل “الوحدة، والحرية، والاشتراكية”، وقد شكّل هذا الموقف طعنة قاسية في صميم الفكرة البعثية، وأسقط ما تبقى من أوهام الوحدة بين جناحي الحزب.
الحرب الباردة بين البعثين
منذ بداية الثمانينيات اشتدت الحرب الباردة بين بعثي العراق وسوريا، انقطعت العلاقة بين البلدين، وأغلقت الحدود، ومنعت الزيارات، وكلّ بلد اعتبر أن مواطنه يحقّ له السفر إلى جميع أنحاء العالم ما عدا إسرائيل وجاره.
واحتضن حافظ الأسد المعارضة العراقية الإسلامية والقومية والشيوعية، رغم أنه يطارد تلك المعارضة في سوريا، حيث كان الأسد يدعم حزب الدعوة الاسلامية، الذي هو النسخة الشيعية من الإخوان المسلمين، وكان حزب الدعوة ينشط سراً داخل العراق وينفذ أعمالاً تخريبية ضدّ حكومة البعث، بما فيها تفجيرات استهدفت مدنيين عراقيين.
حافظ الأسد يجرّم، بموجب المادة 59 من دستوره، أي شخص ينتمي أو يتعاطف مع الإخوان المسلمين. وتحت ذريعة محاربة الإخوان، حارب الأسد كلّ معارضيه بكلّ أطيافهم، وكانت التهم جاهزة بأنهم إخوان وإرهابيون.
وساعدت انتفاضة الإخوان نظام الأسد على تجييش الطائفة العلوية معه، حيث استغل ذلك في دعايته بأن السنة الإسلاميين خطر وجودي على الطائفة العلوية.
ومن هنا طوأف الأسد الدولة السورية، ولاسيما في المراكز الحساسة، بحيث غلب عليها اللون الواحد.
كذلك دعم صدام حسين كلّ معارضي الأسد من إسلاميين وقوميين وشيوعيين، لكنّه استغل الإخوان المسلمين وفتح لهم معسكرات داخل العراق وسخّر لهم جهود الاستخبارات العراقية قصد الإطاحة بحافظ الأسد وكسب سوريا كحليف للعراق والتخلص من سوريا “العدو”.
والمفارقة الأخرى، أن صدام حسين كان يجرّم كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في العراق.
وكان بعث العراق سخياً في الدعم المادي والإعلامي للمعارضة السورية، فيما كان الأسد بخيلاً مادياً مع المعارضة العراقية، لكنّه وجد السخاء في نظام القذافي، الذي كان يعادي صدام حسين من حسابات خاصة تتعلق بالزعامة الاقليمية، إذ كان يرى في صدام منافساً له.
واشتعلت الحرب بين البعثين في الإعلام، وكان كلّ منهما يهاجم الآخر ليل نهار ويُظهر مثالبه وعيوبه ويجيّش شعبه ضده. وكانت الغلبة في موازين تلك الحرب الإعلامية لصالح العراق، الذي كان يعيش طفرة مادية تمكنه من استقطاب كتاب وصحفيين عرب، فيما كانت الصحافة الخليجية التي كانت بارزة في تلك الأيام تقف مع صدام حسين، باعتباره حامي البوابة الشرقية للعرب.
وبالتالي كان بعث العراق متفوقاً على بعث سوريا قليل الموارد. ولم تقتصر الحرب الباردة بين الطرفين على ميادين السياسة والإعلام، بل امتدت إلى أخطر ميادينها وهو الجانب الأمني الاستخباراتي، حيث استخدمت مخابرات البلدين كلّ أساليب التجسس ضد بعضهما، وجنّد كل طرف عملاء له في حكومة الطرف الآخر.
ركزت المخابرات العراقية على تجنيد ضباط سوريين وكذلك فعلت المخابرات السورية. وهنا كان التفوق لصالح المخابرات العراقية، ربما لأسباب تتعلق بالدعم المالي السخي الذي كانت تصطاد به عملاءها في الطرف السوري، وكان في المخابرات العراقية قسم كبير ومهم يُعرف بـ”شعبة سوريا”.
تلك الحرب الباردة بين البعثين امتد شررها لساحات كثيرة، ولاسيما الساحة اللبنانية والفلسطينية، حيث في لبنان دعم العراق الرئيس أمين الجميل، أبرزمعارضي النظام السوري، وكذلك استخدمت سوريا مؤيديها في لبنان ضد الجميل.
وهذا انعكس على الساحة الفلسطينية، حيث دعم صدام عرفات ضد الجبهة الشعبية، حليفة الأسد.
هذه الحرب بين الطرفين لم يستفد منها الشعبان والبلدان.
كان من الممكن لو أن العلاقة قائمة على التعاون والتفاهم المصلحي بين الطرفين، لانعكس ذلك إيجاباً على اقتصاد البلدين، حيث كان العراق بحاجة لممر نفطي إلى البحر المتوسط، وكان من الممكن أن يستفيد العراق وسوريا اقتصادياً، مما يخلق فرص عمل في البلدين.
كذلك مشاريع المياه والزراعة، ولكان العراق سوقاً مهماً للصناعة السورية. لكن تلك العنجهية وحرب الشعارات أفسدت علاقة بلدين مهمين، وانعكست سلباً على علاقة المجتمع السوري بالعراقي بسبب حروب وتنافس البعثيين.
بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات استراتيجية جذرية، فبينما كانت الولايات المتحدة تباشرعملياتها العسكرية في العراق، كان النظام السوري يسعى إلى مقاومة الوجود الأمريكي لإشغاله عن التوجه نحو دمشق التي كانت تصريحات بعض مسؤولي الإدارة الامريكية تشير إلى أن الهدف التالي هو دمشق وطهران.
تلك الفترة كانت مليئة بالتوترات السياسية، حيث أن تطورات الأحداث شكلت انعكاسات كبيرة على العلاقات السورية-العراقية. الدعم للجماعات الجهادية في العراق
في إطار هذه الاستراتيجية، عملت حكومة النظام السوري بالتنسيق مع إيران على السماح للجماعات الجهادية العابرة للحدود بالتوجه إلى العراق للقتال ضد القوات الأمريكية.
كان النظام السوري يغض الطرف عن تحركات هذه الجماعات داخل أراضيه، إذ كان يرى أن هذا التحرك يعد جزءاً من مقاومة الاحتلال الأمريكي، الذي كان يشكل تهديداً كبيراً لكلّ من سوريا وإيران.
وقد جرى ذلك في إطار سياسة كانت تهدف إلى تقويض استقرار العراق، في مسعى منه لمنع التدخل الأمريكي في الشؤون السورية والإيرانية، مع تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة.
ومع مرور الوقت، بدأت العلاقات بين سوريا والعراق تتدهور بشكل ملحوظ، حيث بدأت الحكومة العراقية تحت قيادة نوري المالكي في اتهام سوريا بدعم تلك الجماعات التي كانت تستهدف أمن العراق.
من عام 2004 حتى 2006، تعرضت العراق لسلسلة من التفجيرات والتفجيرات الانتحارية التي اتهمت الحكومة العراقية سوريا بأنها كانت مصدراً رئيسياً لها.
وكان ابرزها تفجيرات وزارتي العدل والخارجية عام 2009 التي اتهم نظام بشارالأسد بتدبيرهما.
قبل بداية الثورة السورية في عام 2011، كانت هناك محاولات لتحسين العلاقات بين سوريا والعراق، ففي هذا الوقت، كان نوري المالكي قد أعرب عن رغبة عراقية في التعاون مع الحكومة السورية، خاصة في إطار التصدي” للإرهاب “، لكن التحسن في العلاقات بين سوريا والعراق لم يكن كافياً لتجاوز الإرث الثقيل من العداء والتوترات الأمنية.
وكان الوضع في العراق لا يزال هشاً، حيث إن جماعات مثل تنظيم القاعدة كانت لا تزال تشكّل تهديداً مستمراً، ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، تغيرت موازين القوى الإقليمية بشكل جذري، وأخذت العلاقات بين سوريا والعراق منحىً جديداً في ظلّ تزايد التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية في كلا البلدين.
موقف العراق من الثورة السورية: مفارقات التاريخ وتشابكات الجغرافيا
حين اندلعت شرارة الثورة السورية في آذار/مارس 2011 ضدّ نظام بشار الأسد، بدا المشهد الإقليمي منقسماً على نفسه بين داعم للثوار ومناصر للنظام.
في هذا السياق، اتخذ العراق الرسمي موقفاً داعماً للأسد، وهو موقف أثار استغراب الكثيرين بالنظر إلى الخلفيات السياسية لقادة العراق الجدد، الذين وصلوا إلى السلطة بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، فالغالبية العظمى من الطبقة السياسية العراقية الحاكمة في تلك المرحلة، من أحزاب وشخصيات شيعية تحديداً، كانت في السابق في صفوف المعارضة ضدّ حزب البعث العراقي، بل إن العراق ما بعد 2003 سنّ قوانين تُجرّم الانتماء لحزب البعث وتعتبره جريمة يعاقب عليها القانون. غير أن المفارقة التاريخية ظهرت جلية عندما وقف هؤلاء في صفّ نظام البعث السوري، ضدّ شعب يطالب بالحرية والكرامة والعدالة، وهي ذات الشعارات التي حملها المعارضون العراقيون سابقاً ضدّ صدام حسين.
هذا الموقف العراقي لم يكن نابعاً فقط من اعتبارات أيديولوجية أو قومية، بل ارتبط بشكل وثيق بعاملين رئيسين: النفوذ الإيراني المتغلغل في المؤسسات العراقية، من جهة، والخشية من تداعيات سقوط نظام الأسد على التوازنات الطائفية والإقليمية، من جهة أخرى.
ومع تصاعد الصراع في سوريا وتحوله إلى حرب مفتوحة، انتقل العراق من مرحلة الدعم السياسي والدبلوماسي إلى التدخل العسكري غير المباشر، عبر تسهيل مرور المقاتلين والسلاح إلى سوريا، ومن ثم التدخل المباشر عبر الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران، والتي تحولت إلى ذراع عسكري فعال في المعارك إلى جانب قوات النظام السوري.
الميليشيات العراقية، وفي مقدمتها “عصائب أهل الحق” و”حزب الله العراقي” و”حركة النجباء”، لعبت دوراً حاسماً في العديد من المعارك، وكان وجودها جزءاً من منظومة التدخل الإيراني الأوسع، إلى جانب “حزب الله” اللبناني والحرس الثوري الإيراني، وأسهم هذا التدخل في ترجيح كفة النظام السوري في عدة محطات مفصلية، لكنه أيضاً تورط في ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، ما ترك جرحاً عميقاً في الذاكرة الجمعية السورية، وساهم في تأجيج الصراع، والانقسام “الطائفي” على مستوى الإقليم.
لم يكن التدخل العراقي مجرد قرار عسكري؛ بل كان انعكاساً لبنية السلطة العراقية الجديدة ما بعد 2003، حيث باتت الميليشيات الشيعية مكوّناً عضوياً من الدولة، وأحياناً تتجاوز سلطاتها الأجهزة الرسمية.
هذه الميليشيات لم تكتفِ بإرسال المقاتلين والأسلحة، بل تورطت في تنفيذ عمليات قمع وحصار وتهجير بحقّ السكان السوريين في مناطق عدة، وخصوصاً في ريف دمشق وحلب وحمص، وهو ما وثقته تقارير حقوقية دولية على مدار سنوات الحرب. في المقابل، برزت داخل العراق أصوات معارضة، التي رفضت الزجّ بالعراق في حرب لا تعني مصالحه الوطنية المباشرة، ورأت في هذا التدخل مغامرة محفوفة بالمخاطر، إلا أن هذه الأصوات كانت محدودة التأثير، بفعل هيمنة المزاج الطائفي على القرار السياسي العراقي، حيث تحولت قضايا المنطقة إلى جزء من الصراع السني-الشيعي، وانقسمت المواقف في العراق بحسب الاصطفافات الطائفية لا بحسب المصلحة الوطنية.
هذا الطابع الطائفي الذي طغى على السياسة العراقية جعل من الأصوات المعارضة للتدخل في سوريا أصواتاً معزولة، لا تلقى آذاناً صاغية.
بل إن الخطاب الرسمي العراقي ذهب في اتجاه تبرير التدخل بوصفه “حرباً استباقية” ضدً الإرهاب و”الدفاع عن المقامات المقدسة” في سوريا، وهي الرواية التي كرّستها الدعاية الإيرانية-العراقية المشتركة، وساهمت في تعبئة المقاتلين وإضفاء الشرعية الدينية والسياسية على الحرب. وعلى مستوى الدعاية الإعلامية، كانت دمشق وحلب تُقدّم في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي العراقي كخطوط دفاع متقدمة عن بغداد والنجف وكربلاء، في صورة تُضفي على الحرب طابعاً مصيرياً لا يتعلق فقط بمصير النظام السوري، بل بمستقبل النفوذ الشيعي في المنطقة بأسرها.
وهكذا تحولت سوريا إلى ساحة مواجهة مفتوحة، ليس فقط بين النظام والمعارضة، بل بين محاور إقليمية ودولية متشابكة المصالح والأجندات.
في المحصلة، لم يكن التدخل العراقي في سوريا مجرد امتداد لتحالف سياسي بين بغداد ودمشق وطهران، بل كان تعبيراً عن تشابك عميق بين الهويات الطائفية والمصالح الجيو-سياسية، وهو ما فتح الباب أمام تداعيات خطيرة، ليس فقط على الداخل السوري، بل أيضاً على وحدة واستقرار العراق نفسه.
سوريا الثورة والعلاقة الحاضرة والمستقبلية مع العراق
منذ سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأت تتضح ملامح سياسة جديدة في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع. حتى قبل سقوط النظام، وأثناء معركة حلب، أرسل الشرع رسالة مصوّرة إلى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أكد فيها التزام سوريا بعدم تهديد أمن العراق.
ومع سقوط النظام، زار رئيس جهازالمخابرات العراقية حميد الشطري دمشق والتقى بالقيادة الجديدة، وسادت اللقاء أجواء إيجابية نسبياً، رغم استمرار التحفظ داخل العراق حيال التقارب مع إدارة الشرع. لاحقًا، عُقد لقاء مهم في الدوحة برعاية قطر جمع الرئيس أحمد الشرع برئيس الزوراء العراقي محمد شياع السوداني، عكس رغبة مشتركة في فتح صفحة جديدة بين البلدين.
وقد سبقت ذلك زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بغداد، ما أكد انفتاح دمشق على بناء علاقة تعاون ندّية تقوم على المصالح المشتركة وخدمة البلدين.
تشير هذه التحركات إلى بداية مرحلة جديدة في العلاقات السورية-العراقية، تقوم على الانفتاح والندية بعيداً عن سياسة المحاور والتدخلات.
ورغم الضغوط الإيرانية التي يبدو أنها منزعجة من التقارب بين سوريا الجديدة والعراق، إضافة إلى التحديات الأخرى مثل الموقف الداخلي في العراق والتوازنات الإقليمية ، فإن نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة الجانب العراقي على تحويل النوايا الإيجابية إلى خطوات عملية تعززالاستقراروتخدم مصالح الشعبين.
زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى بغداد:فرصة تاريخية لكسر حلقة الطائفية وبناء شراكة جديدة
كان الحضور المرتقب للرئيس السوري للقمة العربية في بغداد فرصة استثنائية لتعزيزالعلاقات بين البلدين وطي صفحة الصراع متعدد الجوانب طيلة عقود.
لكن اعتذارالرئيس السوري عن حضور القمة “قد” لا تكون له تداعيات ذات أهمية بالغة مع حقيقة حرص رئيس الوزراء العراقي على بناء علاقات إيجابية مع دمشق متجاوزاً الأجواء الطائفية التي تحتكم لاستحضار أحداث تاريخية مضت عليها قرون.
فما زال كثيرون يتصورون أن يزيد بن معاوية وعمر بن سعد حاضران في دمشق، وأن الكوفة فيها جيش التوابين بقيادة سليمان بن صُرَد!
اليوم، الأوراق موزعة بين الطرفين. فإما تكرار تجربة صراعات “البعثين”، أو تبني علاقة متوازنة قائمة على المصالح. لدى كل طرف أوراق ضغط تمكنه من خوض حرب باردة، كتلك التي شهدتها العقود الماضية، لكنها ستكون حرباً مدمرة على بلدين يعانيان أصلاً من أزمات خانقة في التعليم والصحة والاقتصاد والفساد وهجرة الكفاءات.
ومع ذلك، يمكن لتلك الأوراق نفسها أن تتحول إلى أدوات ردع تفتح الباب أمام شراكة استراتيجية.
يعرف العراق أن لديه حدوداً صحراوية طويلة مع سوريا، تتجاوز 600 كلم، يدرك جيداً خطورتها في حال تغاضت دمشق عن ضبطها، بما قد يسمح لداعش بالتحرك من جديد.
كما تحتضن سوريا مراقد شيعية مهمة يمكن للحكومة السورية – إن أرادت – فرض قيود دينية على زيارتها.
والأهم من كل ذلك، يملك الشرع ورقة دعم المكوّن السنّي في العراق، الذي يرى في حكومته عمقاً جيوسياسياً مكافئاً للعمق الإيراني بالنسبة للشيعة.
في المقابل، يملك العراق أيضاً أوراقاً كدعم فلول النظام السوري السابق، أو التقارب مع القوات الكردية في الشمال، أو استغلال النزاعات الداخلية السورية عبر إيران. لكن بدلاً من الانزلاق إلى لعبة الكباش الإقليمي، يدرك الطرفان أن لديهما مصلحة مباشرة في التعاون: العراق يريد منفذاً آمناً لنفطه إلى المتوسط وسوقاً مفتوحة مع سوريا، وسوريا بحاجة إلى شريك إقليمي يساندها في إعادة البناء والانفتاح الاقتصادي.