الوظيفة العامة المغلقة.. التركة الثقيلة والفرصة السانحة

سامر عليوي – كاتب وصحفي:

في وقت تبحث فيه سوريا عن مسارات جديدة للنهوض من أنقاض سنوات حرب النظام البائد، يطفو على السطح ملفٌ شديد الحساسية، لكنه لا يقلّ أهمية عن ملفات الإعمار والبنى التحتية.

ملف الوظيفة العامة

لعقود طويلة، شكّلت هذه الوظيفة ملاذاً آمناً للمواطن، لكنها في الوقت نفسه تحولت إلى قيد خانق يعرقل تطور الدولة ويعمّق الترهل الإداري، فهل آن الأوان لكسر هذا القيد؟ وهل يمكن تحقيق إصلاح عادل دون أن يكون على حساب الناس؟ هذا ما سنحاول تفكيكه واقتراح ملامح حلّ له فيما يلي:

اعتمدت الدولة السورية على نموذج الوظيفة العامة المغلقة، الذي يقوم على التوظيف الدائم، وضمان الأجر مدى الحياة، مهما كان الأداء أو الإنتاجية، وقد كان الهدف المعلن هو تأمين الاستقرار والأمان الوظيفي والعدالة الاجتماعية في فترة الشعارات الاشتراكية، لكن الهدف الفعلي تمثّل في ربط شريحة واسعة من المواطنين بمصير نظام الأسد البائد، عبر علاقة زبائنية تجعل من الراتب أداة ولاء وخضوع، لا وسيلة إنتاج وكرامة، وتحيّدهم اقتصادياً واجتماعياً عبر ربط معيشتهم برواتب حكومية، غالباً ما كانت زهيدة وغير كافية، فتحولت الوظيفة العامة إلى عبء على الاقتصاد بدل أن تكون أداة لتحريكه، وأدى هذا النظام، فيما أدى، إلى:

انتشار الفساد بوصفه بديلاً “ضرورياً” لتحسين الدخل.

تضخم عددي في الإدارات دون إنتاجية فعلية.

بطالة مقنّعة واسعة النطاق.

بيئة طاردة للكفاءات وضعف القدرة على استقطابها.

نحن اليوم أمام مأزق مزدوج:

تُظهر البيانات الرسمية أن الدولة تدفع رواتب لأكثر من 1.5 إلى 2 مليون موظف، في وقت تعاني فيه شحّ الموارد، وتحديات اقتصادية قاسية، وعقوبات تركت آثارها العميقة على مؤسسات الدولة.

ومن جهة أخرى، لا تستطيع الحكومة الاستمرار في رفع أجور هذا العدد إلى مستوى يؤمن الحياة الكريمة دون أن ترهق الميزانية العامة وتؤخّر استحقاقات الإعمار وخطط التعافي.

إن الإبقاء على هذا الشكل من الإدارة يتعارض مع متطلبات الحوكمة الرشيدة التي تقوم على الكفاءة، الشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، كما أن استمرار هذه المنظومة يعيق عملية ترشيق الجهاز الحكومي الضرورية لجعل الدولة أكثر فاعلية واستجابة، فهل من سبيل إلى انتقال مرن وعدالة اجتماعية؟ نقترح هنا نموذجاً منصفاً ومتدرجاً، يستند إلى أسس إدارة التغيير الإداري ويقوم على:

الإبقاء على دخل الموظفين الزائدين، لكن ليس كرواتب وظيفية، بل كـ”معونة اجتماعية مؤقتة” أو “بدل بطالة” إلى حين دمجهم في فرص عمل أخرى أو مشاريع صغيرة.

البدء بعملية تقييم شاملة للإدارات العامة، وفرز الطاقات الزائدة عن الحاجة، في إطار إعادة هندسة العمليات الإدارية.
إطلاق برامج تدريب وإعادة تأهيل مهني، لربط هؤلاء الموظفين بأسواق العمل الجديدة.

فتح الوظيفة العامة على قاعدة العقود، وانتقاء الأكفأ بناءً على الكفاءة والتخصص، لا على الأقدمية أو الولاء.

ونُذكّر أن المقصود بـالوظيفة العامة المفتوحة أنها وظيفة لا تقوم على التوظيف الدائم، بل على:

التعاقد قصير أو متوسط الأجل.

مؤشرات أداءٍ واضحة وقابلة للقياس.

مرونة في استقطاب الكفاءات من داخل الجهاز الإداري أو من خارجه.
ربط الأجور بالإنتاجية، لا بالهيكل الوظيفي الجامد.

هذا النموذج هو ما تحتاجه سوريا في مرحلة إعادة الإعمار، التي تتطلب تخصصات دقيقة كالقانون الدولي، البيئة، التكنولوجيا، الاقتصاد الحديث، والتخطيط الحضري، لا مجرد موظفين إداريين تقليديين.

مساندة ودور المجتمع المدني وقطاع الأعمال: الحليف الحاضر الغائب؟

بطبيعة الحال، فإن هذا التحول لن ينجح دون شراكة حقيقية مع المجتمع المدني وقطاع الأعمال:

المجتمع المدني يمكنه المساهمة في برامج التوعية، وإعادة التدريب، ودعم المبادرات الصغيرة.

القطاع الخاص والمنظمات الاقتصادية قادرون على استيعاب جزءٍ من القوى البشرية المسرّحة ضمن مشاريع إنتاجية ذات جدوى.

الإعلام والنخب السياسية والفكرية مطالبة بكسر “تابو” الوظيفة العامة، وتوضيح أن الأمن الوظيفي لا يعني راتباً ثابتاً مدى الحياة، بل بيئة عمل منتجة تضمن الكرامة وفرص التطور، وهذه لحظة وطنية مفصلية، تتطلب إرادة سياسية شجاعة ووعياً مجتمعياً ناضجاً.

لقد أصبح إصلاح الوظيفة العامة في سوريا شرطاً لبناء الدولة، لا مجرد بند إداري، والمطلوب هو الفصل الحاسم بين استمرار الموظف واستمرار المنظومة، وتحويل الإدارة العامة من عبء إلى ذراع مرنة قادرة على تنفيذ البرامج الوطنية.

سوريا الجديدة لا يمكن أن تنهض بإدارة عتيقة موروثة من نظام بائد.. يكفي لاستقرار المؤسسات أن تقوم الدولة بتطبيق القوانين النافذة ريثما يتم تحديثها، شرط أن تنطلق بخطاً شجاعة ومنسقة مع فواعل المجتمع كافة، حتى نقرر معاً الانعتاق من أسر هذا الماضي.

إن الشرط الأول لإطلاق مشروع وطني حقيقي في سوريا ما بعد الصراع، هو فك الارتباط بين الوظيفة العامة والمنظومة السياسية السابقة، وهذا لا يتحقق إلا عبر إدارة تغيير إداري مدروسة، وتخطيط تشاركي، يراعي التكلفة الإنسانية ويضمن العدالة والفاعلية. فلا استقرار مؤسسي دون إدارة عامة فعالة، ولا إدارة فعالة دون ترشيق الجهاز الحكومي، ولا ترشيق دون حوكمة رشيدة ترتكز على الشفافية والمساءلة. المطلوب ليس تسريح الموظفين.. بل تحريرهم.. وتحرير الإدارة العامة السورية من نظام لم يعد منتجاً، بل بات عقبة كأداء في وجه استحقاقات الإعمار والتنمية.

آخر الأخبار
انفراجة اقتصادية مرتقبة... الصناعيون يستعدون للعودة والإنتاج المصارف الخاصة .. خدمات بطيئة بأنظمة مرهقة   مركز بيانات Open AI ... أحد أكبر مشاريع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم  اختراق حسابات شخصية لا تستخدم ميزة المصادقة الثنائية (2FA)  الوزير الشعار: الغرف التجارية ركيزة لدعم الاقتصاد 19 صرافاً جديداً بدمشق  وزير الاتصالات: توسيع وتحسين الخدمات الرقمية والهاتفية في حلب  الشيباني يبحث هاتفياً مع كالاس تفعيل خطط التعافي المبكر وإعادة الإعمار  أردوغان: ضرورة دعم وحدة أراضي سوريا  تأهيل 9 آبار مياه  لتلبية احتياجات أهالي معضمية الشام  أهالي جديدة الفضل يشتكون من إزعاجات الدراجات النارية  سعر جديد مخفض لأسطوانة الغاز قريباً  خبرات سويسرا التربوية إلى سوريا   News Week : إيران توقع اتفاقية دفاعية مع روسيا وسط تصاعد التوترات النووية مع الولايات المتحدة  رويترز": واشنطن بصدد تعيين سفيرها لدى تركيا مبعوثاً خاصاً إلى سوريا  إعادة تكوين السجلات العقارية في زملكا  مدير المصالح العقارية لـ " الثورة ": الحقوق والملكيات مصانة  شهية المستثمرين " مفتوحة بالكامل على حسياء الصناعية  90 طلباً استثمارياً جديداً عرباً وأجانب     الأطفال والقدرة على مواجهة الحياة   تطوير مهارات التفكير والتحريض على التحليل    البابا ليو الرابع عشر يدعو لضرورة إدخال المساعدات الإنسانية لغزة  كيف نربي أطفالاً ناجحين ...؟ المرشدة سعيد ل " الثورة ": الحوار والتفكير الناقد