الثورة- ترجمة هبه علي:
يرغب الكثيرون في سوريا بتخليد بقايا تاريخهم الحديث، ليس فقط لتذكره، بل كقصة تحذيرية.
لافتات وملصقات ورسومات جرافيتي تندد بالديكتاتورية.. قذائف مدفعية تحولت إلى منحوتات.. أدوات تعذيب.. حتى سجن بأكمله.
بينما تخرج سوريا من فصل مؤلم في تاريخها الحديث، يسعى البعض في البلاد جاهدين للحفاظ على بقايا انتفاضة مناهضة للحكومة دامت قرابة 14 عاماً.
ويأملون ألا تكون هذه الانتفاضة مجرد تذكير بما فعله المعارضون لمحاربة نظام وحشي، والثمن الذي دفعوه، بل أن تكون عظة وعبرة.
ويسارع آخرون إلى استعادة كميات كبيرة من الوثائق والأقراص الصلبة وأجهزة الكمبيوتر من الحكومة المخلوعة، وهي العناصر التي يأملون أن تساعد في تحقيق قدر من العدالة والمساءلة.
قد تقولون إننا بحاجة إلى نسيان هذه المشاهد، لكنني لا أريد أن أنساها، قال معتصم عبد الساتر، البالغ من العمر 45 عاماً، والذي كان محتجزاً في سجن صيدنايا، أسوأ سجون سوريا سمعة.
وأضاف: “يجب أن تصبح هذه المشاهد ذكرى خالدة في الذاكرة، فلا تتكرر، لا في سوريا، ولا في أي بلد في العالم”.
في أحد الأيام الأخيرة، خارج سجن صيدنايا، حيث أعدم عدد لا يحصى من السجناء من دون محاكمة، كان السيد عبد الستار يجمع المشانق من حبال متشابكة كخصلات شعر، ثم يجرها إلى داخل السجن، بأجنحته المترامية الأطراف وزنزاناته الرطبة، لحفظها، متخيلاً إياها معروضة في صندوق زجاجي.
قال عن المشانق: “أريد الحفاظ عليها. إنها لا تقدر بثمن”، ثم سرد أسماء المعتقلين الذين يحتمل أنهم لقوا حتفهم في السجن. “لقد أُعدموا جميعاً هنا بهذه الطريقة”.
ووصف عبد الساتر، الذي يعمل الآن باحثاً في جمعية معتقلي ومفقودي صيدنايا، كيف كان يتم استقبال السجناء هناك، بالضرب حيث كانوا معصوبي الأعين ومقيدين ويساقون كالمواشي.
وقال: إنه يريد إنقاذ كل ما تبقى من صيدنايا، بدءاً من أسماء السجناء والرسائل التي نقشوها على جدران الزنازين، إلى الملابس والأحذية التي لا تزال مكدسة في جميع أنحاء السجن، وحتى الأحواض الصغيرة التي كانوا يحصلون فيها على القليل من الطعام.
لم يمتد شغف تخليد آثار عقود من القمع إلى آلاف الصور واللوحات الإعلانية، تماثيل الديكتاتورِ المخلوع بشار الأسد ووالده وسلفه.
فبعد أن أطاح المتمردون بالأسد في أوائل ديسمبر، سارع السوريون إلى تمزيق وتدمير صورِه وعائلته.
وبالنسبة للعديد من السوريين، فإن الرغبة في حماية تاريخهم الحديث ملحة بشكل خاص بسبب التجارب السابقة.
في عام 1982، قامت قوات الأمن التابعة لحافظ الأسد، والد بشار الأسد، بقتل الآلاف من المدنيين وتدمير مدينة حماة في وسط البلاد لسحق انتفاضة مناهضة للحكومة بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة إسلامية.
ويواجه السوريون خطر الاعتقال أو ما هو أسوأ لعقود من الزمن إذا تحدثوا علانية عن الانتفاضة والمذبحة، التي وصفتها عائلة الأسد بأنها معركة ضد الإرهابيين.
تقول سناء يازجي، 55 عاماً، وهي مصممة جرافيك من العاصمة دمشق: “باعتبارنا سوريين في ظل حكم عائلة الأسد، كان ممنوعاً علينا أن نتذكر أي شيء”.
قالت: إنها فرت إلى لبنان المجاور عام ٢٠١٣ مع عائلتها خوفاً من أن يكونوا مطلوبين من قبل حكومة الأسد.
أسست منظمة تعرف باسم “الذاكرة الإبداعية” لتوثيق الملصقات والأغاني والرسوم التوضيحية من الانتفاضة التي اندلعت عام ٢٠١١، والتي أشعلتها ثورات الربيع العربي الأخرى في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد تم بالفعل محو بعض تذكارات الانتفاضة، مثل رسومات الجرافيتي وفنون الشوارع التي خاطر السوريون بحياتهم من أجل رسمها، فقط لكي تقوم القوات الموالية للنظام بتغطيتها.
وتحظى هذه الرسوم بأهمية خاصة بالنظر إلى أن انتفاضة عام 2011 بدأت بخط واحد من الكتابة على الجدران.
في أوائل عام 2011، وبينما كانت الاحتجاجات الشعبية تطيح بالزعماء العرب، قامت مجموعة من الصبية المراهقين في مدينة درعا الجنوبية برسم شعار على جدار مدرسة يسخر من بشار الأسد، طبيب العيون السابق: “الآن دورك يا دكتور”.
وألقي القبض على المراهقين وتعرضوا للتعذيب، ما أدى إلى اندلاع المظاهرات في مختلف أنحاء سوريا.
ولكن لا يزال من الممكن رؤية قدر كبير من الكتابة على الجدران في مختلف أنحاء سوريا، سواء كانت رسائل وداع من الناس أثناء نزوحهم أو رسائل تحدٍّ مكتوبة على الأنقاض التي خلفتها الغارات الجوية الحكومية.
في الشهر الماضي، عرض منظمو الفعاليات المجتمعية في دمشق عشرات الصور التي تظهر ملصقات ورسوم غرافيتي ورسوما كاريكاتورية من الثورة.
وركز المعرض، الذي حمل عنوان “البداية”، على المعارضة السلمية المناهضة للحكومة في السنوات الأولى للانتفاضة.
قالت سفانا بقلة، إحدى المنظمات، عن النشاط السلمي: “يتذكر الناس أن التحرير تم بالسلاح، وهو أمر مهم، لكننا نسينا كيف بدأ كل شيء”.
من بين أثمن القطع الأثرية اللافتات التي عرضت لسنوات كل جمعة خلال الاحتجاجات في مدينة كفرنبل شمال غرب البلاد. وقد لفتت هذه الشعارات انتباهاً عالمياً.
“إنها ليست حربا أهلية، بل إبادة جماعية، دعونا نموت، لكن لا تكذبوا”، هكذا كتب على لافتة من عام ٢٠١٢.
ستعرض بعض اللافتات نهاية هذا الأسبوع في معرض جديد بدمشق، لكن رايات كفرنبل كادت أن تضيع في الحرب.
في أيار 2019، عندما شنت القوات الحكومية هجوماً ضد المتمردين في محافظة إدلب شمال غرب البلاد، حيث تقع كفرنبل، قال سكان المدينة: إنهم فروا تحت وطأة الغارات الجوية المكثفة.
قال عبد الله السلوم، عضو مركز كفرنبل الإعلامي ، الذي أدار إذاعة محلية وأعد الشعارات الأسبوعية، إن مئات اللافتات تركت خلفه، وكان قد كلف بحفظها.
وأضاف أن “النظام كان يتهمنا بفبركة الاحتجاجات، وأنها لم تحدث فعلياً”، مشيراً إلى أن اللافتات “دليل للتاريخ”.
ورغم الخطر الشديد في ذلك الوقت، قال السيد السلوم وصديقه: إنه عاد إلى كفرنبل لإنقاذهم، وتسلل قبل الفجر.
قال السيد السلوم: إن القوات البرية الحكومية كانت لا تزال على بُعد أميال، لكن الطائرات الحربية كانت تهاجم .. قاد هو وصديقه سيارتهما من دون أن يطفئا مصابيحهما الأمامية، وتوجها إلى المركز الإعلامي، عندما وصلوا، جمعوا لافتات حشرت في أكياس وصناديق بلاستيكية.
وفجأة، سمعوا عبر جهاز لاسلكي من شبكة إنذار مبكر: طائرة حربية تحلق فوق المدينة، استولوا على مئات اللافتات وانطلقوا مسرعين، لكن في صباح اليوم التالي، عاد الاثنان، مدركين للمخاطر الجسيمة.
قال السيد السلوم: إنهم سمعوا غارات جوية من بعيد ورأوا سحباً من الدخان في الأفق، ورددوا الشهادتين قبل أن ينطلقوا بالسيارة، خوفاً من أن يقتلوا، وجدوا أن المركز الإعلامي قد تعرض لغارة جوية، وأن معظم المبنى قد تحول إلى أنقاض، لكن اللافتات المحمية بلفائف من العشب الصناعي المستخدم في بناء الملعب، نجت، فأمسكوا بها وغادروا بسرعة خوفاً من عودة الطائرة الحربية.
ويحاول السيد السلوم جاهداً أن يشرح لماذا كانت اللافتات تستحق المخاطرة بحياته. “هذا هو تاريخ الثورة السورية”.