من ديوان الأمويين إلى عصر التتبع الرقمي.. هل يلحق البريد السوري بالزمن؟   

الثورة – هنادة سمير: 

يعود تاريخ البريد في سوريا إلى العصر الأموي عندما أسس الخليفة عبد الملك بن مروان أول ديوان خاص به مقره دمشق، واستمر تطوره في العهدين العباسي والعثماني إلى أن تأسست أول إدارة بريدية حديثة عام 1865 ويلعب دوراً مهما في ربط المدن والناس والدولة.

رغم هذا التاريخ العريق إلا أن البريد اليوم يواجه تحديات عديدة تتعلق بالبنية التحتية وثقة المستخدمين والتحول الرقمي.

من خلال هذا الملف نحاول تسليط الضوء على واقع القطاع البريدي، تحدياته، وسبل النهوض به.

مؤشرات

تشير البيانات الرسمية إلى تراجع حاد في أداء البريد السوري خلال السنوات الأخيرة، فقد انخفض عدد المراكز النشطة إلى نحو 450 مركزاً فقط، مع خروج العديد منها عن الخدمة، وتراجعت الحوالات الداخلية إلى 2.5 مليون سنوياً، بينما انخفض عدد الطرود البريدية إلى 1.2 مليون، مقارنة بـ3.5 ملايين قبل 2011. كما سجّلت المؤسسة عجزاً مالياً مستمراً، إذ تجاوزت نفقاتها الإيرادات، ولا تتجاوز تغطية الخدمة في الريف 60 بالمئة.

تتكرر شكاوى المواطنين من ضعف خدمات البريد السوري، تقول رنا رزوق من اللاذقية إنها أرسلت وثائق عبر البريد المستعجل لكنها وصلت متأخرة بأسبوعين دون إمكانية تتبعها، ويشتكي وليد الشعار وهو متقاعد من ريف دمشق، من الازدحام والتأخير في صرف راتبه بسبب نقص الموظفين وتعطل النظام.

أما آية وهي طالبة جامعية، فتقول: أرسلت طردت يحتوي أوراقاً هامة لكنه تعرض للتلف دون تعويض أو اعتذار، ورأى مواطنون أخرون أن البريد يفتقر للرقابة والكفاءة، ولا يلبي احتياجاتهم الأساسية، ما يدفعهم للجوء إلى البدائل رغم تكلفتها العالية.

مشكلات هيكلية وإدارية

الخبير الاقتصادي ماهر عرفة يرى أن تأخر البريد ليس وليد اللحظة بل نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال الإداري وغياب التخطيط وضعف الاستثمار في البنية التحتية والتقنية، فالمؤسسة رغم عراقتها تعمل بعقلية تقليدية لا تواكب متطلبات العصر وتدار كجهة خدمية هامشية في حين أنها تملك مقومات التحول إلى ذراع لوجستي اقتصادي فاعل.

وشدد عرفة على أن البريد لا يمكن أن يستمر كمرفق تقليدي فقط، بل يجب تطويره ليصبح منصة شاملة تقدم خدمات مالية وإلكترونية متكاملة، تحقق مفهوم الشمول المالي، الذي يتيح لجميع المواطنين الوصول إلى الخدمات المالية الحكومية والخاصة بسهولة ويسر، ما ينعكس إيجاباً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولتحقيق ذلك يؤكد عرفة على ضرورة تحديث الشبكة البريدية وربطها بمنصات الحكومة الإلكترونية، مع تدريب الكوادر على استخدام التكنولوجيا الحديثة وتعزيز ثقافة الخدمة، كما يرى أهمية فتح شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص لتحسين خدمات التوصيل وتوسيع نطاقها.

يعزو مدير عام المؤسسة السورية للبريد عماد الدين حمد معوقات تطوير القطاع وخدمات البريد إلى تراكمات السياسات السابقة، وضعف البنية التحتية والتنظيمية للمؤسسة، إضافة إلى غياب آليات التتبع والرقابة المالية والإدارية.

وأوضح أن الهيكلية الإدارية الحالية لا تتماشى مع طبيعة عمل المؤسسة، كما أن غياب التدريب المستمر للعاملين وانعدام المتابعة أدى إلى ضعف الأداء مشيراً إلى أن المؤسسة، رغم كونها خدمية، إلا أنها ذات طابع اقتصادي وتتعامل مع إيرادات مالية كبيرة يجب ضبطها ومتابعتها، لكن هذا الجانب تم تهميشه، ما فتح الباب لحالات سرقة واختلاس.

البيروقراطية سيدة الموقف

وصف حمد البيروقراطية الإدارية بأنها أحد أبرز المعوقات، مستشهداً بحالة تتطلب ثلاثة تواقيع لتبديل “لمبة واحدة”، رغم كونه مديراً عاماً، وتساءل عن كيفية سير العمل في باقي المفاصل الإدارية ضمن هذا الروتين المعقّد.

وكشف أن لدى المؤسسة نحو 40 موظفاً في قسم المالية والحسابات، ورغم ذلك تغيب آليات الضبط المالي. وأضاف أن هناك 400 خزنة بريدية موزعة على المحافظات تُجرد مرة كل شهرين، ولا أحد يعلم مصير الأموال التي تدخلها.

وأوضح حمد أن من أبرز التحديات هو وجود عدد كبير من الكوادر غير المؤهلة وتكدس وظيفي ناتج عن الانتشار الجغرافي الواسع للمكاتب البريدية، وتدخل المحسوبيات في نقل الموظفين إلى قرى لا تحتاج الى ذلك .

بنية تحتية متهالكة وأسطول آلي “خردة”

أما البنية التحتية الفنية فهي متهالكة حيث توقّف الشحن تقريباً بسبب تهالك أسطول المؤسسة، الذي يضم مئات الآليات غير الصالحة سوى للبيع كخردة نتيجة الإهمال المتراكم في الصيانة.

وأضاف: إن العديد من الأبنية التابعة للمؤسسة مدمرة، خاصة في المناطق المحررة، مشيراً إلى أن في إدلب وحدها هناك 40 مكتباً بريدياً خارج الخدمة، ويجري العمل حالياً لإعادة ثلاثة منها إلى العمل خلال الفترة الحالية.

وفي الشق المالي يشير حمد إلى أن هناك أموالاً مجمدة في حسابات البريد لأسباب متعددة، أبرزها أن موازنة عام 2025 لا تتماشى مع التوجهات الحالية، مؤكداً أن المؤسسة، باعتبارها جهة حكومية، ملزمة بالعمل وفق الموازنة المعتمدة حتى نهاية العام، بانتظار إدخال موازنة جديدة أكثر توافقاً مع الخطط التطويرية.

“شام كاش” أولى الخطوات

ورغم التحديات، أوضح المدير أن المؤسسة تمكنت من إدخال خدمة “شام كاش” لقبض رواتب الموظفين، والتي يمكن أن يستفيد منها نحو مليون موظف، إضافة إلى المواطنين غير الموظفين، وقد تم الإعلان عن تفعيل الخدمة في 12 محافظة سورية من خلال 32 مركزاً بريدياً، تشمل: دمشق وريفها، حمص، حلب، إدلب، حماة، السويداء، درعا، القنيطرة، اللاذقية، طرطوس، ودير الزور.

وكشف عن خطة مستقبلية لربط المؤسسة بمنظومة الحكومة الاكترونية، لتكون بوابة مركزية لإنجاز المعاملات المختلفة، مثل دفع الأقساط الجامعية، واستخراج جوازات السفر، والبطاقات الشخصية، وتسديد الضرائب والفواتير.

وستتم هذه العمليات إما عبر تطبيقات إلكترونية خاصة بالمؤسسة أو من خلال توسيع شبكة الأكشاك البريدية لتغطية أكبر عدد ممكن من المناطق.

الهوية والجوازات قريباً عبر البريد

ولفت إلى أن العمل جارٍ بالتنسيق مع وزارة الداخلية لإتاحة استخراج وثائق السجل المدني والعدلي وجوازات السفر والهويات عبر البريد، موضحا أن هذه الخطوة ستخدم أكثر من 20 مليون مواطن عند البدء بعملية تحديث الهويات مستقبلاً، وسيتمكن المواطن من تحديد مركز بريدي لاستلام هويته من دون الحاجة لزيارة مركز الأحوال المدنية، على أن تشمل الخطة لاحقاً خدمة توصيل الوثائق إلى المنازل، بعد إجراء عملية إحصاء وعنونة شاملة للمنازل بالتعاون مع وزارة الداخلية.

اتفاقية مع البريد القطري قيد الدراسة

وتتضمن أيضا مساعي التطوير دراسة لاتفاقية مع البريد القطري ستُعلن لاحقاً، تهدف إلى تطوير خدمات الشحن الدولي باستخدام الطيران القطري، والاستفادة من مكتب المبادلة في مطار دمشق الدولي، إضافة إلى تحسين خدمات الشحن الداخلي.

يقف البريد اليوم أمام تحدي الانطلاق نحو نموذج حديث يدمج التكنولوجيا والخدمات المالية الالكترونية ونجاح هذا القطاع لا يقتصر على تحسين الخدمات فقط، بل يعكس قدرة الدولة على مواكبة التطورات العالمية وتلبية حاجات مجتمعها المتغير.

آخر الأخبار
الشيباني يبحث مع القائم بالأعمال الإيطالي في دمشق تعزيز التعاون    افتتاح  قسم لمستشفى البيروني الجامعي في المزة  اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب تلتقي الفعاليات المجتمعية في حلب  تغذية الأرصدة للتحويل وفق سويفت..  محمد لـ"الثورة": المصارف الحكومية والخاصة جاهزة للربط  "آثار التلوث البيئي وإمكانية المعالجة" في جامعة اللاذقية  الشرع: العمل على وقف الاعتــداءات الإسرائيلية عبر وسطاء دوليين  تسهيلات جديدة  للحصول على جواز السفر في إدلب المخدرات.. من التفكك الاجتماعي والأسري إلى الأمراض العضوية   ثقافة السّم المدسوس هل تنتهي !؟  "كابوس الخيمة"... يطارد النساء حتى بعد العودة إلى الموطن "تجارة درعا": إلغاء ضريبة الديزل على الحافلات يشجع التبادل التجاري   من ديوان الأمويين إلى عصر التتبع الرقمي.. هل يلحق البريد السوري بالزمن؟    المخدرات في زمن الرقمنة.. استهداف ممنهج للشباب  سلاحنا الوحيد الوعي   المخدرات بداية الحكاية بلا نهاية..  تستهدف المدارس والجامعات وتفتت المجتمعات   "الاقتصاد" و"الاتصالات".. توسيع أتمتة الخدمات للتحول الرقمي    The Cradle: إسرائيل أخفت ما يقرب من 400 ألف فلسطيني في غزة   أزمة الجمعيات السكنية المتعثرة إلى أين؟  "الإسكان": قانون جديد للتعاون السكني      واشنطن تجدد دعمها لدمشق في محاربة الإرهاب تقرير استخباراتي أميركي يشكك بنتائج الضربات على النووي الإيراني وترامب ينفي  مراكز تحويل كهربائية جديدة بريف القنيطرة الأوسط