الثورة – عبدالغني العريان:
في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات، تخرج إلى العلن قصة الشاب أنس – ع، ابن مدينة حلب، لتضيء جانباً يناقش من ظاهرة الإدمان؛ حكاية لا تبدأ بتهريب الكبتاغون عبر الحدود، ولا تنتهي بأوكار تجار السموم، بل تنشأ من رفوف الصيدليات، ومن عبوات دواء يُفترض أنها مخصصة لعلاج السعال.
بين الكبتاغون وشراب السعال، وبين التعافي والانتكاس، تمثل رحلة أنس – ع، صوتاً لجيل وجد نفسه بين فوضى الحرب، ودراما الشاشة، وأدوية تُباع علناً، حتى بدأ التحول مؤخراً في السياسات الدوائية للحد من هذا الانزلاق الخفي.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه السلطات مؤخراً عن ضبط أطنان من الحبوب المخدرة والحشيش في محافظة حلب، تتكرس إرادة رسمية لمواجهة إرثٍ ثقيلٍ تركه نظام الأسد البائد، الذي كان سباقاً في إنتاج الكبتاغون وترويجه محلياً وخارجياً، مغرقاً البلاد بجيل يعاني من آثاره حتى اليوم.
• الكبتاغون والانهيار الأول
“بدأت بحبة كل يومين… ثم أصبحت يومياً كان السعر منخفضاً، والتوصيل سريعاً”، يقول أنس.
خلال دراسته الجامعية عام 2022، انجذب أنس نحو الكبتاغون كمنشط دراسي، على حد زعمه؛ الحبة كانت في متناول اليد، يصل بها الطلب عبر تطبيق تلغرام، وييسلم له على دراجة نارية، دون وسيط أو صعوبة.
يقول: “ظننت أنها مجرد وسيلة لتحسين التركيز، خاصة مع ضغط الدراسة والعمل، لكن سرعان ما بدأت تظهر أعراض رعشة في اليدين، وتوتر غير مبرر، وسهر مرهق”.
تدخل طبيب صديق للعائلة، وبعد كشف سريع، أدرك والده أن الأمر تجاوز مجرد إجهاد دراسي أبلغ أنس بوضوح أن ما يتعاطاه هو مادة مخدرة.
هنا بدأت أولى مراحل العلاج، بجلسات تعافٍ، انتهت بتوقفه الكامل عن الكبتاغون بعد صراع مع العلاج، لكن، كما يكشف لاحقاً، كان التحدي التالي أكثر هدوءاً، لكنه أشد تسللًا.
• الانتكاسة الجديدة.. إدمان مقنع
“في مطلع عام 2023، شاهدت مشهداً في مسلسل قديم عن شاب يشرب شراب السعال، قررت أن أجرب؛ عبوة واحدة تحولت إلى خمس في اليوم، ولا أحد سألني لماذا أشتريها؛ نظام كان ينتج الكبتاغون ويبدع في بيعه لن يضع قوانين تمنع بيع ادوية تحوي مخدر في الصيدليات ذلك مايريده فعلياً، هلوسة جيل بأكمله”، يقول أنس.
بعد أشهر من تعافيه من الكبتاغون، وقع أنس في فخ جديد، هذه المرة، كان الطريق أقصر، شراب السعال الذي يحتوي على مواد مخدرة مثل الكودائين، يُباع على عهد النظام البائد في الصيدليات دون وصفة طبية، ولا يُصنف كمخدر رسمي، ما جعله سهل الوصول حتى للمراهقين.
يقول: “بدأت التجربة بدافع الفضول، ثم شعرت براحة مؤقتة غريبة، ونشوة لم أعهدها، ومن هنا بدأت الجرعة تزداد”.
خلال فترة قصيرة، أصبح جسده يعتمد على الشراب، ومع كل عبوة، كانت الأعراض تزداد حدة عندما يتوقف ليوم واحد فقط.
الاختصائية النفسية “عفراء العريان” قالت لـ الثورة؛ إن البيئة التي خلفتها سنوات الحرب أسهمت في تسريع الاعتماد النفسي والإدماني على مواد مختلفة، حتى لو لم تكن مصنفة كمخدرات.
“اتجه الشباب نحو هذه المواد بسبب واقع قاسٍ وغير مستقر؛ التجربة تبدأ غالباً من الفضول أو الحاجة للهروب من الواقع، ثم يجد الشخص نفسه معتمداً عليها نفسياً وجسديا؛ مع الوقت، تُستنزف أهداف الإنسان وأولوياته، وتتحول حياته إلى دائرة مغلقة يسعى فيها للحصول على المادة بأي وسيلة، حتى لو ارتكب في سبيلها أخطاءً جسيمة”.
وتحذر العريان من تأثير الأعمال الدرامية التي تُظهر بعض المواد وكأنها مدخل للراحة أو النشوة دون تقديم رسالة واضحة: “أحياناً تحول الدراما عن غير قصد مشاهد التحذير إلى محفزات للتجربة الأولى، خاصة في غياب التوجيه الأسري أو المؤسسي”.
الصيدلاني “عارف مدادي” في حي صلاح الدين بحلب يوضح لـ الثورة؛ أن هناك تحولات مهمة بدأت تُطبق مؤخراً في السياسة الدوائية قائلاً؛
“بعض أنواع شراب السعال تحتوي على مواد مخدرة بنسب بسيطة، واليوم، لا تُصرف هذه الأدوية من المستودعات إلا بدفتر وصفات نفسية، حتى لو كانت النسبة 1% فقط، سواء كانت شراباً، أو أقراصاً، أو تحاميل”.
ويؤكد أن هذه الخطوة جاءت استجابة لحالات سوء الاستخدام، وتهدف إلى حماية الفئات الشابة من التعرض غير الواعي لتأثيرات الإدمان عبر الأدوية المتاحة.
حكاية أنس -ع، لا تنتهي بتعافيه، بل تبدأ منه؛ فهي مرآة لجيل عاش لحظة انهيار مجتمعي، حيث اندمجت الفوضى السياسية والصحية والإعلامية في مشهد واحد.
في ظل النظام البائد، أصبحت عدد من الصيدليات مصدراً للإدمان، لا العلاج، وأصبحت الدراما محفزاً للانزلاق، لا التوعية، ويجد كثير من الشباب أنفسهم، كما يقول أنس، “لا يبحثون عن السقوط، بل عن مهرب مؤقت من الألم”.
في المقابل، تبذل الدولة السورية اليوم جهوداً متزايدة لسد هذه الثغرات، بدءاً من الحملات الأمنية واسعة النطاق، وصولاً إلى تغيير قواعد صرف الأدوية المحتوية على أي مواد مخدّرة، ومراقبة آلية البيع في الصيدليات.
لكن المعركة، كما يبدو، ليست فقط أمنية أو قانونية، بل توعوية وثقافية وأخلاقية، تستدعي استثمار الإعلام والدراما والتعليم في بناء جدار وقائي جديد.
• أنس… صوت من نجا
“تعافيت من الكبتاغون، ثم من شراب السعال، واليوم أدرك أن لا وجود لما يسمى (إدمان بسيط)”، يقول أنس، ويضيف: “كل بداية قد تكون النهاية، لكن بالإرادة والدعم الصحيح، هناك دوماً فرصة للنجاة”.
في يوم مكافحة المخدرات، يُضاف صوت أنس – ع، إلى جهودٍ تبذل في أروقة الأمن، وأروقة الصيدليات، وفي العيادات النفسية، ويبقى الأهم؛ نشر الوعي، قبل أن تصل العبوة الأولى إلى يد مراهق لم يُدرك بعد أن هناك طريقاً يصعب الخروج منه.