الثورة – عمار النعمة:
منذ أن بدأ الإنسان يرفع رأسه نحو السماء باحثاً عن معنى لوجوده، اصطدم بالسؤال الوجودي الأكبر: لماذا الألم؟ هذا السؤال لم يكن مجرد صرخة في فراغ، بل تحول عبر العصور إلى محرّك للتأمل الفلسفي، ووقود لرحلة العقل نحو الحقيقة، وبينما يُنظر غالباً إلى الفلسفة كمنتج عقلي مجرد، فإن جذورها كثيراً ما نبتت من تربة الجرح، من عذابات شخصية، ومن شكوك لم تخل من الأنين، وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن أعظم الفلاسفة في التاريخ لم يخرجوا من بيوت الرفاه، بل من عتمات وجودية مريرة، من جراح لم تلتئم، ومن ليالٍ طويلة من الشك والتساؤل.
هنا نحاول تتبّع العلاقة المعقدة بين الألم والفكر الفلسفي، وكيف يصبح الجرح نقطة انطلاق لا نهاية، وبذرةً لولادة وعي لا يرضى بالتسليم.
فمثلاً أدرك الألم الفيلسوف فريدريك نيتشه، حين كتب في كتابه “العلم المرح” “الألم الكبير هو منقذ العقل الأخير.. معلم الشك الأكبر، الذي يعيد كل حقيقة مزيفة إلى أصلها.
“هكذا، لم يرَ نيتشه في الألم عائقاً، بل مدخلاً نحو الحقيقة، ومع أنه عاش أوجاعاً جسدية ونفسية عميقة، دعا إلى فلسفة لا تكون مرآة لمرض صاحبها، بل سعياً نحو فكر لا ينكسر رغم الكسور، لم يطالب بالخلاص من الألم، بل بتحويله إلى أم للأفكار، حيث كتب: “يجب أن نلد أفكارنا من خلال الألم، كما تلد الأمهات أبناءهن بالدم والوجع والولع”، فالوعي الحقيقي، من وجهة نظره، لا يأتي من راحة البال، بل من صراع داخلي يكشف هشاشتنا ويدفعنا للتساؤل.
في السياق نفسه، يأتي الفيلسوف الروماني إميل سيوران، الذي عاش فصولاً من الكآبة منذ ولادته، بل وصف مجيئه إلى العالم بأنه الخطأ الأول الذي لم يُستشر فيه، لم يستسلم لهذا الألم، بل تبنّى فكرته، وكتب: “لا توجد وسيلة لتحمّل نكبات الحياة، إلا أن نحب فكرة النكبة نفسها”، بالنسبة له، القبول هو السلاح الذي يجعلنا ضحايا لا تُقهر، تتسامى على المفاجآت والخذلان.
أما آرثر شوبنهاور، فيبدو الأكثر صراحة في كراهيته لفكرة السعادة، إذ كتب في “فن العيش السعيد” “الركض وراء السعادة يشبه مطاردة وهم.. ينتهي بنا إلى السقوط في حفرة من الشقاء” الحياة عنده ليست رحلة نحو السعادة، بل محاولة للبقاء وسط تيار دائم من الكوارث والمصائب.
تأملات هؤلاء الفلاسفة لا تُقدم أجوبة جاهزة، بل تطرح أسئلة حول جدوى المعاناة، وحقيقة الوجود، ومصدر الوعي، وكان الجامع بينهم جميعاً هو الإيمان بأن الألم ليس نقيضاً للحكمة، بل أحد مقادح شرارتها.
أداة لمواجهة الإحباط
في الجهة الأخرى من الفلسفة، نقرأ لباروخ سبينوزا الذي رأى أن الفهم العقلي للعالم يقود إلى “الغبطة”، وهي أعلى درجات السعادة.
بدوره، ألان دو بوتون في كتبه مثل “عزاءات الفلسفة”، قدّم الفلسفة كأداة لمواجهة الإحباط وتحسين الحياة اليومية، أما إيمانويل كانط، فاعتبر أن السعادة ليست الهدف الأسمى، بل الواجب الأخلاقي، لكنه آمن بأن العقل قادر على تنظيم الحياة نحو الخير.
نحن أمام مشهدين فلسفيين متقابلين: مشهد يولد من الجرح ويحوّله إلى فكرة، وآخر يتجاوز الجرح عبر الفهم ويحوّله إلى وعي منظم، لكن التحدي الأكبر هو أن نمارس الفلسفة بعد التعافي، لا من داخل الجرح، أن نفكر دون أن ننزف، أن نطرح الأسئلة لا من قاع الألم، بل من ضوء التأمل الهادئ.
في الختام نقول: إن الفلسفة ليست حكراً على من يعانون، لكنها في الغالب تصغي أكثر لمن تألموا، فالجرح يُنضج السؤال، لكن العقل النقي هو من يطوّر الجواب، وهكذا، يبقى السؤال الأخير مفتوحاً هل نكتب الفلسفة لنتعافى، أم نتعافى لنكتبها؟.