الثورة – عمار النعمة:
منذ سنوات بعيدة، لم ينقطع الحبر عن السيلان فوق صفحات النقد الأدبي التي تتناول فيودور دوستويفسكي، الكاتب الروسي الذي صاغ عبر رواياته ملامح النفس البشرية بعمق نادر، لكن وسط هذا الزخم الهائل من الدراسات التي كتبت عنه في روسيا، وفي أوروبا وسائر العالم، بزغ نجم نقدي مختلف: ميخائيل باختين، الذي أعاد تعريف الطريقة التي ينبغي أن نقرأ بها دوستويفسكي.
باختين، الفيلسوف والمنظّر الأدبي الروسي، لم يكن مجرد ناقد آخر يكرر تحليلات حول “المضمون” و”الأفكار” التي تحملها روايات دوستويفسكي، لقد ذهب أبعد من ذلك، واقتحم عالماً لم يتوقف عنده كُثر من قبله: عالم الشكل الفني، وهذا ما نجده في كتاب :”أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب للمؤلف ميخائيل باختين وترجمة مالك صقور وشاهر أحمد نصر.
الرواية متعددة الأصوات:ثورة فنية
ما أبرزه باختين، والذي أصبح حجر الزاوية في دراسته، هو ما أسماه بـ”الرواية متعددة الأصوات” وفي هذا النموذج الروائي، لا يحتكر الكاتب الحقيقة ولا يفرض صوته على الآخرين، بل يمنح شخصياته حرية فكرية حقيقية، لتعبّرعن رؤاها ومواقفها من الوجود بلا وصاية، الشخصيات عند دوستويفسكي ليست أدوات لإيصال فكرة الكاتب، بل عقول حيّة تتحاور، تتصارع، وتفكر بحرية.
تناول باختين أيضاً مفهوم “الفكرة” في عالم دوستويفسكي، واعتبرها لا تُطرح كمسلّمة، بل تُعاش وتُختبر داخل عقول الشخصيات، هي “فكرة حيّة” وليست بناءً منطقياً جامداً كما ركّز على دور”البطل” بوصفه كائناً مستقلاً، يملك صوته، ووعيه، وصراعه الداخلي، ويقف على قدم المساواة مع المؤلف نفسه.
وفي مبحث أدبي غني، يعود باختين إلى جذور الأدب منذ سقراط، مروراً بالأدب الساخر في العصور الوسطى، وانتهاءً بروح “الكرنفال”، ليكشف عن مصادر الإلهام العميقة التي غذّت إبداع دوستويفسكي، كما يفرد فصلاً خاصاً لـ”الكلمة” عند دوستويفسكي، مبيناً أن الكلمة ليست مجرد أداة، بل صوت نابض بالحياة، يتغيّر مع الشخصية والموقف.
يرى باختين أن دوستويفسكي فنان قبل أن يكون فيلسوفاً أو كاتباً صحفياً، فنيّته لا تنفصل عن فكره، وشكله لا ينفصل عن مضمونه، ومن هنا، فإن نقد باختين لا يضيء دوستويفسكي فقط، بل يعيدنا إلى السؤال الأهم:
كيف نقرأ الأدب؟ وهل نملك الأدوات الكافية لفهم أعماقه الحقيقية؟.
في زمن يتكاثر فيه الكلام عن الأفكار والمضامين، يذكّرنا باختين بأن الشكل لا يقل عمقاً عن المضمون، وأن الفن الحقيقي هو ذاك الذي لا يسجن شخصياته في قوالب جاهزة، بل يطلقها في فضاء الحرية، حيث يولد الإبداع الحقيقي.
صدرت من هذا الكتاب أربع طبعات رئيسية، وجرى ترجمته إلى لغات عديدة، وما زال حتى اليوم مادة للنقاش في الندوات والمؤتمرات، ولهذا فقد أحدث باختين تحولاً نوعياً في النقد الأدبي، ليس فقط في تحليل دوستويفسكي، بل في فهم جوهرالفن الروائي الأوروبي برمته.
لقد قدّم باختين مفاتيح لفهم العمق الإبداعي لدوستويفسكي، وأعاد تعريف معنى الأصالة في الفن الأدبي، وفي زمن تتسارع فيه التصنيفات والمفاهيم، تظل رؤية باختين نبراساً لفهم ما هو أدب وما هو فن، وما هو الإنسان بينهما.