الثورة – سمر حمامة:
في عالم يزداد فيه الوعي بقضايا الصحة النفسية، لا يزال التنمّر واحداً من أكثر السلوكيات تدميراً للنفس والروح، سواء كان لفظياً، جسدياً، نفسياً أو إلكترونياً.
لا يقتصر التنمر على الأطفال كما يُعتقد، بل يمتد ليطول الكبار في أماكن العمل والمجتمع.
والنتيجة: آثار عميقة قد تبقى مدى الحياة.
في هذا المقال، نسلط الضوء على أشخاص من أعمار مختلفة، شاركونا تجاربهم المؤلمة مع التنمر، يأخذ التنمر أشكالاً متعددة كما قلنا منها ما هو لفظي، جسدي، اجتماعي، وحتى إلكتروني.. وغالباً ما يُمارَس ضد من يُنظر إليهم على أنهم “مختلفون”- سواء من حيث الشكل، الوضع المادي، الحالة الصحية، أو الخلفية الاجتماعية.
ضحاياه لا يقتصرون على الأطفال فقط، بل يمتدون إلى البالغين، ليدخل أماكن العمل، والجامعات، وحتى التجمعات العائلية.
ضحايا التنمر يعانون بصمت، إذ تترك هذه الممارسات جراحاً لا تندمل بسهولة، وقد تؤثر في الثقة بالنفس، وتدفع بالبعض إلى الانطواء، أو حتى الاكتئاب والعزلة أو السلوك المؤذي للذات.
في هذا الإطار، نكمل شهادات من أشخاص عانوا التنمر من زوايا مختلفة.
“ينظرون إليه وكأنّه ليس طفلا”!
تتحدث أم الطفل عمرو، وهو في سن السابعة من عمره يعاني من متلازمة داون، بمرارة عن النظرات الجارحة من سكان الحي، وتقول:”ابني عمرو طيب وحنون بشكل لا يتخيّله أحد، يحب الضحك واللعب مع الجميع، لكن أولاد الجيران يبتعدون عنه ويضحكون عليه دائماً، كما يقلدون طريقة كلامه ومشيته.. والموجع أكثر أنه حتى الكبار لا ينظرون له نظرة احترام، بعضهم ينظرون بنظرات شفقة أو استغراب، وهذا يؤلم قلبي أكثر من كلمات الأولاد”.
وتتابع: “بت أصطحبه معي للمكان الذي يحبه ويرتاح فيه، مثل مركز ذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن مع مرور كل يوم يعلمني مدى قساوة المجتمع إن لم يفهم الاختلاف”.
“ابنتي انعزلت عن زميلاتها”
أما أبو رنيم، فيروي قصّة ابنته ذات السنوات العشر والتي بدأت تتغيّر شخصيتها فجأة، فأصبحت هادئة بشكل غير مألوف، وانعزلت عن زميلاتها، حتى اكتشف السبب وهو أن “زميلاتها في المدرسة يضحكون على لباسها، لأنه بسيط ويسخرون من سندويشاتها المتواضعة، ليس لدي القدرة لشراء حقيبة بـ100 ألف ليرة مثل رفيقاتها، أو مثلجات كل يوم.. وهذا الأمر يجعلها تشعر بالنقص”.
ويكمل بقلب مكسور: “في يوم عادت من المدرسة تبكي، وقالت لي: (ليش أنا مو متلهم؟)… عندها عرفت بأن الجرح لا يلتئم بالمال، وإنما بحاجة لتغيير نظرة مجتمع كامل”.
“الوزن أصبح لعنة تلاحقني”
رغد، ٢٤ سنة، تعمل في شركة خاصة، وتحكي عن تجربة التنمر التي تعرضت لها من زملائها في العمل بسبب وزنها الزائد:” في كل مرة أفتح علبة طعامي، يهمسون ويضحكون ويقولون تعليقات مثل: (ما بتشبع!)… كنت أضحك أحياناً لكيلا أبدو ضعيفة، لكن بعدها كنت أعود للمنزل وآكل أكثر… أصبحت أفرغ حزني بالأكل”.
تتابع، والدمعة في عينها: “وصلت لحالة اكتئاب، وجسمي تأثر، واضطررت للخضوع إلى عملية تكميم معدة.. لم يكن جسمي المشكلة، بل لأني ما عدت قادرة على تحمل السخرية، التنمّر يسرق منك احترامك لنفسك من دون أن تشعر”.
“كانوا يسومونني بلون بشرتي”
ليلى، طالبة جامعية في كلية الحقوق، تتحدث عن معاناتها في المرحلة الإعدادية، وتقول:”كنت سمراء اللون وشعري مجعد، وكنا من عائلة بسيطة تعيش بالإيجار، كنا زميلاتي يتهامسن على شكلي ولون بشرتي، ويرفضن الجلوس بجانبي، حتى المعلمة كانت تنظر لي بنظرة فيها تمييز”.
وتضيف ليلى: “عندما كبرت، صرت أدرس بقوة لأثبت أن الذكاء ليس له علاقة بالشكل أو بالمكان الذي ولدت فيه، ولكن إلى الآن، أي كلمة فيها إشارة للشكل تجعلني أعود طفلة خائفة.”
التدريب بالعلاج
“أنا رجل، ولكن التنمر جعلني هشاً”..أحمد، موظف في الأربعين من عمره، يعترف بشجاعة أنه تعرض للتنمر من زملائه القدامى بسبب تلعثمه في الكلام: “كل مرة كنت أشارك في اجتماع، كان هناك شخص يقلد طريقتي بالكلام بطريقة ساخرة، وكانوا يضحكون.. الكل يضحك، إلا أنا”.
وأشار بالقول: “أنا اليوم مدير قسم، لكن بعد عشرين سنة من التدريب والعلاج. التنمر كان يجعل صوتي يختفي، وحتى الآن، يتهيأ لي أن الناس تراقب كيف أقوم بلفظ الكلمات”.
وللإضاءة بشكل أعمق على هذه الظاهرة، تحدثنا إلى المرشدة النفسية دارين السليمان، التي أكدت أن التنمر لا يُعدّ سلوكاً عابراً، بل هو شكل من أشكال العنف الاجتماعي الممنهج.
“التنمر ينتج غالباً عن بيئة تفتقد للتربية العاطفية والوعي الاجتماعي، حيث الشخص المتنمّر يعاني عادة من قلة تقدير لذاته، أو من تجارب عنف سابقة، فيمارس السلطة الزائفة على من يراهم أضعف منه.”
وأوضحت أن آثار التنمر قد تكون طويلة الأمد مثل، فقدان الثقة، اضطرابات الأكل، القلق الاجتماعي، اضطرابات النوم، وحتى التفكير في الانتحار في بعض الحالات الشديدة، الأطفال المتنمر عليهم إن لم يجدوا احتواءً حقيقياً من الأسرة والمدرسة، قد يتحولون لاحقاً إلى متنمرين أو ضحايا مزمنين”.
وقدمت المرشدة النفسية مجموعة من النصائح المهمّة الخاصة بالأهل، داعية إياهم أن يراقبوا سلوك أطفالهم، ويكونوا مستمعين جيدين، لا يحكمون بسرعة، والأهم تعزيز ثقتهم بأنفسهم وألاّ يقللوا من معاناتهم.
وبالنسبة للمدرّسين: بينت أن التنمر يجب ألا يُرى كمزاح بين الطلاب، بل هناك حاجة لبرامج توعية داخل المدارس وبيئة صفية آمنة.. أما البالغين فعليهم، ألا يترددوا في طلب المساعدة النفسية، فتجاهل التنمر قد يؤدي إلى تراكم أذى كبير داخلكم.
وللمجتمع عامةً:لا بدّ من تقبّل الاختلاف كونه الخطوة الأولى نحو بيئة إنسانية تحترم الآخر وتُشعر الجميع بالأمان.
إذاً التنمر ليس مجرد كلمة جارحة أو نظرة استهزاء، إنه خنجر نفسي قد يغرس في أرواح الآخرين من دون أن يترك دماً ظاهراً، لكنه يترك نزيفاً داخلياً قد لا يندمل لسنوات.
وبالتالي ما يحتاجه ضحايا التنمر هو مجتمع يسمع، يعي، ويتحرك، وأهل يحتضنون، ومدارس تربّي، وأصوات تقول: “كفى”، الاختلاف في الشكل، أو اللغة، أو الحالة الاجتماعية، أو حتى الطريقة التي يأكل بها الإنسان، لا يجب أن تكون سبباً في الأذى، بل في فهم أعمق للإنسانية.
فكلنا، في النهاية، نستحق أن نعيش باحترام وكرامة، بعيداً عن سكاكين التنمر الصامتة.