الثورة – هنادة سمير:
في زمن تتداخل فيه الحياة الواقعية مع العالم الرقمي، لم يعد ارتكاب جريمة يتطلب سلاحاً أو تواجداً مادياً، يكفي منشور على فيسبوك أو تعليق على تيك توك أو صورة أُرسلت على واتساب، لتجد نفسك أمام محكمة الجرائم المعلوماتية.
لكن في مجتمعنا، لا تزال الثقافة القانونية الرقمية غائبة، لا يدرك معظم المستخدمين أن ما يقومون به على الإنترنت قد يكون مخالفاً للقانون، وقد يعرّضهم للمساءلة أو حتى العقوبة.
الجرائم المعلوماتية تشمل الجرائم المعلوماتية بحسب القانون رقم 20 لعام 2022، كل فعل يُرتكب عبر شبكة الإنترنت أو الأجهزة الذكية ويتسبب بضرر مادي أو معنوي للآخرين، أو يهدد الأمن العام أو الخصوصية أو الحقوق الرقمية.
ومن أبرز أنواعها: الذم والقدح والتشهير عبر وسائل التواصل، نشر صور شخصية من دون إذن، الابتزاز الإلكتروني (خصوصاً بين المراهقين)، اختراق الحسابات والبريد الإلكتروني، التحريض الطائفي أو السياسي أو العرقي عبر المنشورات، الاحتيال المالي عبر الروابط المزيفة أو العملات الرقمية.
رغم أن سوريا دخلت مرحلة جديدة بعد التحرير السياسي، إلا أن قانون الجرائم المعلوماتية لم يتغير منذ صدوره في نيسان 2022، لم تُصدر الحكومة الجديدة حتى الآن أي تعديل رسمي أو مرسوم جديد يعيد صياغة القانون أو يعدل في العقوبات مثال: لا تزال نفس العقوبات المنصوص عليها في القانون سارية، ومنها السجن حتى 15 عاماً وغرامات تصل إلى ملايين الليرات، بحسب نوع الجريمة.
المحامي أحمد زرزور بين لـ”الثورة”: القانون ما زال قائماً دون تعديل، ورغم إعلان نوايا لإعادة النظر فيه في بعض المواد إلا أنه لم تصدر أي إجراءات رسمية حتى الآن.
خطورة الجهل بالقانون
نشرت إحدى السيدات صوراً ورسائل من زوجها السابق على صفحتها، لتسيء إليه أمام الناس، لكنها لم تعلم أن هذا يعد جريمة تشهير رقمي تعرضها للغرامة وربما الحبس، وشاب آخر قام بإرسال صورة شخصية لفتاة دون موافقتها عبر تلغرام مما يعد تحرشاً إلكترونياً موثقاً.
ويندرج أيضاً ضمن الجرائم المعلوماتية ما يقوم به بعض المستخدمون العاديون من مشاركة أخبار كاذبة أو إشاعات مثل: وفاة شخص أو عمليات اقتحام أو إغلاق مدارس.. وغيرها مما يتسبب في إرباك الرأي العام.
يقال إن القانون لا يحمي المغفلين والأسوأ من ذلك أن كثيراً من عامة الناس لا يفرقون بين النقد والتشهير، ولا يعرفون الفرق بين الحق في النشر والحق في الخصوصية.
يتابع المحامي زرزور: يظن الناس أن النشر على الإنترنت لا يترتب عليه مسؤولية، لكن المحكمة تنظر لكل منشور على “السوشال ميديا”، كما تنظر إلى مقال منشور في صحيفة وطنية، ويرى أن القانون السوري الحالي للجرائم المعلوماتية متين من الناحية التشريعية، لكنه يصطدم بغياب شبه تام للوعي القانوني لدى عموم المستخدمين.
ويقول: المشكلة الأكبر ليست في وجود المخالفة، بل في أن الناس لا يعرفون أنها مخالفة أصلاً، فالغالبية يتعاملون مع الإنترنت وكأنه فضاء شخصي أو مكان للتنفيس، بينما هو في الحقيقة مساحة عامة تخضع للمساءلة والمحاسبة.
يؤكد زرزور أن التعامل مع القضايا بعد وقوعها لا يكفي، بل يجب أن نزرع وعيا استباقياً، ونعيد بناء العلاقة بين الفرد والمعلومة الرقمية، على أساس من الأخلاق والقانون. ويضيف: مرّت عليّ قضايا عديدة لأشخاص ارتكبوا أفعالاً مجرّمة مثل التشهير أو نشر محتوى خاص أو إرسال تسجيلات صوتية دون إذن من دون أن يدركوا أنهم ارتكبوا جريمة، بعضهم كان يعتقد أن حذف المنشور يمحو الأثر القانوني، لكن القانون لا يُحاسب فقط على النتيجة، بل على النية والأثر الرقمي أيضاً.
وبحسب تقارير حديثة، فإن أكثر من 35 بالمئة من القضايا الرقمية في عام 2025 تعود إلى سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بين الشباب الذين يفتقرون للتوعية القانونية الرقمية، وفي دمشق وحدها، يتم تسجيل ما بين 10 إلى 15 ضبطاً قضائياً يومياً متعلقاً بالجرائم الإلكترونية، بحسب تصريحات قضائية، وفي السياق نفسه.
حملات توعية حتى الآن لا توجد حملة وطنية شاملة لتوعية السوريين بحقوقهم الرقمية وواجباتهم، بعض المنظمات المدنية أطلقت مبادرات صغيرة، مثل توزيع كتيبات عن “الجرائم الإلكترونية الشائعة” في الجامعات، لكن هذه الخطوات محدودة الأثر.
ويقترح المحامي زرزور أن تدرس مادة الثقافة الرقمية القانونية في المدارس، وأن تنظم حملات عبر نفس المنصات التي ترتكب عليها المخالفات مثل فيسبوك، إنستغرام، واتساب. القانون موجود والثقافة غائبة
ويضيف: القانون موجود لكن الثقافة غائبة في بلد خرج لتوه من حرب، وحيث تنتشر الأمية الرقمية بشكل واسع، لا يمكن الركون إلى الردع القضائي فقط.
إنما نحتاج إلى ثقافة تعلم الناس أن الإنترنت ليس منطقة “خارج القانون”.
وإن نشر صورة من دون إذن جريمة، وأن الإساءة العلنية عبر التعليق تعد قدحاً وذماً وأن الابتزاز ليس فقط بين الغرباء، بل قد يكون بين أقرب الناس.
من وجهة نظر زرزور، الوقاية تبدأ من التوعية، وليس من المحكمة.
ويرى أن الحل لا يكون فقط بتشديد العقوبات، بل بخلق ثقافة رقمية تبدأ من المدرسة وتشمل المجتمع بأسره.
وحسب رأيه فنحن بحاجة إلى خطة وطنية للتوعية القانونية الرقمية بحيث يعرف كل طالب ومواطن ما معنى خصوصية، وما الفرق بين حرية التعبير والقدح، وما هي عواقب مشاركة معلومة خاطئة.
بدون هذا الفهم، سيظل الناس عرضة للوقوع في الخطأ، ولو بحسن نية.
وتشير الأرقام حسب المحامي زرزور إلى أن استمرار ارتفاع الشكاوى يوميا يؤكد أن المسؤولية القانونية الرقمية لم تصل بعد إلى مستوى الوعي العام، وأن دور التعليم والإعلام والمجتمع المدني لا يزال محدوداً.
ولا يكفي في سوريا الجديدة أن نستخدم الإنترنت بل علينا أن نعي كيف نستخدمه فما نكتبه أو نشاركه أو ننشره قد يكون أداة لبناء حوار، أو سبباً في مساءلة قانونية، فالسوشال ميديا ليست فقط منبراً للآراء، بل أيضا ساحة قانونية محكومة بضوابط وأخلاقيات، وبينما نحتفي بحرية التعبير، علينا ألا ننسى أن الحريات تبدأ من الفهم وتنتهي بالمسؤولية والقانون، وإن كان صارماً، يبقى أداة لحماية الفضاء الرقمي شرط أن يفهم ويُطبّق بعدل ووعي.