الثورة – مريم إبراهيم:
كثيرة هي التحليلات والآراء التي تطرح وتثار في الأحاديث اليومية، وحتى الآنية بالتزامن مع مشهد حرائق الغابات في ريف اللاذقية، والتي أحدثت كماً كبيراً من الخسائر والأضرار بمختلف المسميات، لتشكل كارثة بيئية واقتصادية كبيرة، لا سيما وأن أكثر من 15 ألف هكتار من الأراضي الزراعية والحراجية احترقت في الساحل، وهذا بحد ذاته يعكس حجم الكارثة وهولها، والتي مازالت مستمرة مع الجهود المضنية التي تبذل في مواجهة النيران ومكافحتها بقدر الإمكانيات والوسائل المتاحة، لمنع تمدد هذه النيران لمساحات ومناطق أخرى.
الحضور الأقوى
ويكاد المشهد الأبرز الذي يؤكد حضوره القوي في هذا المشهد المأساوي منذ سبعة أيام هو التضحيات الاستثنائية، و التفاني والاستبسال و حجم الجهود التي يبذلها رجال الإطفاء في الدفاع المدني السوري وفي أفواج الإطفاء الأخرى، وأفواج إطفاء الحراج والفرق المساعدة من دول الجوار في مواجهة هذه الحرائق بشتى الوسائل، هذا من جهة، أما الجهة الأخرى فيبرز التعاضد المجتمعي للأفراد والتكاتف حسب الإمكانيات، فهناك المبادرات التطوعية والتي سجلت حضورها من مختلف البقاع والجغرافيا السورية على بساطتها ومحدوديتها، كما ظهر جلياً عبر مبادرات شباب متطوع من جميع المحافظات.
ورغم كل ما يقال يبقى الكثير مما يتوجب أن يقال أمام الشعور بالألم والأسف لما أحدثته هذه الحرائق من غصة كبيرة، وشعور كبير بالفقد لثروة بيئية هي رئة سوريا ومتنفسها مع تصاعد التغيرات المناخية واتساع خطورتها في اختلال التوازن البيئي بشكل عام، فحجم الأضرار يكاد لا يوصف حسب تقديرات المختصين والخبراء في هذا الشأن، كون هذه الغابات تعد النموذج الوحيد في سورية لما يسمى علمياً بالنظام البيئي الغابوي، وبكارثة احتراقها خسرنا هذا النموذج، وبالتالي سببت فقدان أعز ما نملك من مئات آلاف الأشجار من السنديان والصنوبر والخرنوب والغار، وشجيرات وأعشاب وأبصال لنباتات هامة مثل السوسن والزعتر البري والآس وغيرها الكثير والنادر، وكذلك خسارة البنية الفيزيائية الوظيفية للتربة، والتي تحتاج لوقت طويل لتعود كما كانت وتحتضن جذور الأشجار والنباتات لتنمو من جديد.
وتتعدد التحليلات الاقتصادية والاجتماعية لكم الأضرار الناجمة عن هذه الحرائق، مع الدعوة لخطط عمل طموحة تعنى بحماية الغابات وتقدم مختلف أنواع الدعم المجتمعي للمتضررين منها باختلاف أشكال هذا الضرر.
أزمة تنموية
الخبير الاقتصادي عامر ديب بين لـ”الثورة” أن موجة الحرائق الواسعة التي شهدها الساحل السوري في الفترة الأخيرة، والتي طالت الغابات والمساحات الزراعية في محافظات اللاذقية وطرطوس، مسببة أضراراً كارثية على المستوى البيئي والاقتصادي، خاصة في القطاع الزراعي الذي يمثل مصدر دخل رئيسي لآلاف الفلاحين، فهذه الحرائق ليست مجرد كارثة طبيعية، بل تحولت إلى أزمة تنموية وإنسانية، بسبب ما أحدثته من خسارة مباشرة في المحاصيل (كالزيتون والحمضيات) وغيرها من أشجار مثمرة، وتراجع في الإنتاج الزراعي المحلي،
وأضرار طالت الأراضي الحراجية والغطاء النباتي، وانقطاع دخل مئات الأسر الريفية، وارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، وتراجع الثروة الحيوانية.
ولفت ديب إلى أنه في ظل هذا الواقع، بات من الضروري أن يتم التحرك ضمن خطة طوارئ وطنية واضحة وسريعة تشمل تدخلاً عاجلاً من وزارة الزراعة عبر تقييم الأضرار خلال وقت سريع، وتقديم دعم مباشر للفلاحين المتضررين من الحرائق، وإطلاق قروض زراعية بلا فائدة، وتوزيع غراس بديلة، إضافة إلى إطلاق حالة استجابة مجتمعية فاعلة عبر إشراك المجتمع المدني في حملات إعادة التشجير، وتشكيل فرق تطوعية لحماية الغابات، وجمع التبرعات وتوفير مستلزمات إعادة الإعمار الزراعي، فحماية الغابات ليست فقط مسؤولية الدولة، بل واجب وطني جماعي يرتبط بأمننا الغذائي والبيئي بشكل عام.
في الأفق
لويبقى أي كلام صغيراً جداً أمام الواقع، حيث الجميع حاضر مسؤول وعامل ومواطن، فمع كل شجرة احترقت يعتصر الألم القلوب، وهي التي كانت تمثل إرثاً للأجيال القادمة، لكن يبقى الأمل متجدداً في النفوس، لتعويض ما أمكن من خسارة وفقدان، لا سيما مع تبني الجهات المعنية العمل حالياً على إعداد خطة شاملة لحماية الغابات ومنع تكرار مثل هذه الحرائق مستقبلاً، وضرورة شحذ الهمم والعمل معا كدولة ومجتمع لإعادة زراعة الأشجار وتبني حملات التشجير في مختلف المواقع المتضررة، فالحرائق المندلعة أدّت إلى نزوح آلاف الأشخاص، وتسببت بأضرار كبيرة للخدمات الحيوية والمجتمعات الريفية، في ظل أوضاع صعبة، وهذا يحتاج أيضاً إلى جهود مضاعفة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هول الكارثة، كما تحتاج لجهود مشتركة من قبل مختلف الوزارات والمؤسسات المدنية والمجتمعية لرسم مشهد آخر باللون الأخضر والأمل الأجمل لجميع السوريين، يداً واحدة وقلباً واحداً ينبض بالحب والعطاء لسوريا الجميلة.