نهر قويق.. حين يتحوّل الماء إلى وباء

الثورة – جهاد اصطيف:

يعيش من يطل منزله على مجرى نهر قويق وسط مدينة حلب، حالة قلق مزمن، يتأرجح بين استنشاق روائح كريهة خانقة، ومخاوف حقيقية من أمراض جلدية وطفيلية، على رأسها مرض اللاشمانيا المعروف محليا بـ”حبة حلب”، وبين هذا وذاك، لا يجد السكان إلا خيارات صعبة، أحلاها مر، إذ يتحول النهر المكشوف إلى مصدر خطر بيئي وصحي، طالما غاب عنه الاهتمام.

ضحية ذبابة الرمل

تروي أم شوكت وهي سيدة خمسينية من سكان حلب، كيف بدأت معاناتها عندما استيقظت ذات صباح لتجد بثرة صغيرة على إصبع يدها اليمنى، سرعان ما تطورت خلال أسبوع إلى حبة كبيرة حمراء مؤلمة، وعند مراجعتها لأحد المراكز الصحية، علمت بأنها مصابة بما يسمى بـ” حبة حلب “، أو اللاشمانيا الجلدية، التي تتسبب بها ذبابة الرمل، والتي تتكاثر في الأماكن الرطبة والمياه الراكدة الملوثة.

وتضيف: إن الطبيب أخبرها أن سرير نهر قويق مسؤول عن العديد من حالات الإصابة، فذبابة الرمل تجد في النهر المكشوف بيئة مثالية للانتشار.

لم تكن أم شوكت الوحيدة التي أصيبت باللاشمانيا، فالأحياء القريبة من مجرى النهر، عادة ما تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة الإصابات بأمراض متعددة، تتجاوز الجلدية لتشمل الطفيلية والهضمية، بسبب القرب المباشر من مياه ملوثة ومكشوفة .

في الطرف المقابل، تعاني أم جورج من مشكلة مختلفة ولكنها متصلة بالنهر ذاته، إذ تقول: إنها لم تنعم بنوم هانئ في الصيف منذ سنوات، بسبب الحرارة المرتفعة والنشاط الكثيف للبعوض والحشرات، تضيف : نضطر إلى إغلاق جميع نوافذ المنزل ليلا، ما يحول البيت إلى فرن، حتى في الليالي التي تنشط فيها الرياح، فكرنا مراراً في بيع المنزل بأي ثمن فقط لنبتعد عن هذا الواقع المرير.

مشكلة عالمية..وانعكاسات محلية

تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2022، أكد خطورة المياه العادمة المكشوفة، وذكر أن 45 بالمئة من المياه العادمة المنزلية في العالم لا تتم معالجتها بشكل مأمون، وأن 10 بالمئة من سكان العالم يستهلكون أغذية مروية بمياه عادمة، بما فيها مياه الصرف والمياه الصناعية والزراعية الملوثة.

هذه الأرقام، ربما تجعل من نهر قويق جزءاً من أزمة مستمرة، لكنها في حلب تأخذ بعداً إنسانياً مباشراً وملموساً، نظراً للكثافة السكانية حول سرير النهر.

في مفارقة لافتة، يقع على طرفي سرير النهر مبان سكنية حديثة البناء، مصممة وفق مقاييس هندسية عصرية، من شوارع عريضة، إلى أبنية منارة ومهواة، إلا أن هذه الميزات تفقد معناها عند الحديث عن الروائح الكريهة المنبعثة من النهر. عبود، أحد سكان المنطقة، يقول: اختار والدي الشقة في الطابق الثالث لإطلالتها على الجنوب الغربي، لكننا محرومون من فتح النوافذ في الربيع والصيف بسبب الروائح التي تصدر أحياناً عن النهر المكشوف.

أما أبو إبراهيم، جاره في ذات الحي، فلديه معاناة مضاعفة مع موجات البرغش والبعوض، التي تبدأ مع بداية الصيف وتستمر أحيانا حتى بداية الشتاء، يستخدم الناموسيات القماشية للحصول على نوم هادئ، ويؤكد.. المشكلة تتجاوز حدود منازلنا، النهر المكشوف يشكل خطراً عاماً يصل تأثيره حتى للأحياء المحاذية له، والأسوأ أن الأطفال يلعبون على ضفتي النهر، ويخوضون أحياناً في مياهه الملوثة من دون أي رقابة أو وسائل حماية.

سياحة في مهب الرائحة

يروي صاحب مطعم مطل على مجرى النهر: في البداية، كنا نعتقد أن الإطلالة ستكون ميزة إضافية، خاصة مع وجود الشلال والمنطقة الخضراء المحيطة، لكن مع تبدل فصول السنة، وبالخصوص في فصل الصيف، يحجم الكثير من الزبائن عن ارتياد المطعم بسبب الرائحة، والأهم من ذلك حاليا كثرة انتشار الحشرات والبعوض، بل والقوارض رغم الإجراءات الاحترازية الكثيرة التي نتخذها.

فيما يقول آخر قريب من شارع الفيلات: انفقنا مبالغ كبيرة على تجهيز التراس المطل على النهر، لكن الواقع فرض علينا وضع أجهزة تبخير وسواها، حتى الشكاوى التي كنا نقدمها لمجلس المدينة بلا فائدة تذكر.

ليس خطر لسعة فقط

تنتج عن انتشار البعوض والحشرات في مياه النهر الراكدة مخاطر طبية حقيقية، أبرزها اللاشمانيا، التي تبدأ بحبة صغيرة مكان اللسعة، وتتحول إلى وذمة جلدية ملتهبة تحتاج علاجاً طويلاً.

ويحذر الأطباء من أمراض أخرى مرتبطة بالمياه الملوثة، منها الحساسية، الحكة، الزحار، الإسهال، الكوليرا، وجميعها تنتقل من المياه إلى الطعام والفواكه والخضار عن طريق الهواء أو اللمس، ما يجعل من قويق مصدراً مهدداً لصحة الإنسان والبيئة. لا يقف ضرر نهر قويق عند المناطق السكنية، بل يمتد إلى الأراضي الزراعية في ريف حلب، خاصة الجنوبي منه، إذ يلجأ بعض المزارعين إلى استخدام مياهه الملوثة لري مزروعاتهم، نظراً لقربه وانخفاض تكلفة استجراره.

يقول أحد المزارعين: سقاية المحاصيل بمياه قويق منتشرة بكثرة، خصوصاً في الأراضي القريبة من مجراه، منذ فترة ، تراجعت الظاهرة بسبب القرارات وجولات الرقابة وخوفاً من الغرامة والعقوبات، لكن لا تزال هذه الحالات قائمة، لأن الفلاح مضطر لأن يسقي مزروعاته، بالخصوص الخضراوات الورقية، بأي طريقة ما يشكل خطراً مضاعفاً على المنتجات الزراعية والمستهلكين، علماً أن أهم مطلب للفلاحين والمعنيين في تلك المناطق كانت ولا تزال منصبة على ضرورة تأهيل وصيانة محطة المعالجة المتوقفة منذ زمن، إلا أن ذلك لم يتم حتى الآن بحجة تكلفتها المادية العالية جداً.

حين كان نهراً

لا يحمل نهر قويق مكانة في الذاكرة السورية كما هو الحال مع الفرات أو دجلة أو حتى النيل، بل إن ذكره غالباً ما يقترن بالتهكم والرائحة الكريهة، وعلى مر العقود، تراجعت مكانته من نهر فيض شتوي، إلى مجرى جاف صيفاً، ثم إلى مجرى مياه عادمة.

كانت الينابيع الثلاثة “عين التل، العين المباركة، والعين البيضاء” تغذيه، إلى أن حولت تركيا مجراه إلى داخل أراضيها في عشرينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت، تحول قويق من نهر يستخدم للشرب والري، إلى ما يشبه الخندق المليء بالنفايات والروائح الكريهة، حتى في الذاكرة الشعبية، لم يكن للنهر مكان محترم، بل أُطلقت عليه أسماء مثل “نهر قليط”، تعبيراً عن قذارته ورائحته، جسوره تهدمت مع الزمن، وبساتينه تحولت إلى أحياء سكنية مثل بستان الباشا وبستان الزهرة، ولم يبق له حضور إلا في الشتائم والذكريات المنسية.

قصة مشروع لم يكتمل

في عام 2004، بدأ مشروع ضخم لجر مياه نهر الفرات إلى قويق عبر قناة إسمنتية بطول 55 كلم، انتهى العمل به في 2008، كانت القناة تضخ 90 متراً مكعباً في الثانية، عبر شلال قرب مخيم حندرات، لتصل إلى محطة معالجة في حي الشيخ سعيد، وتسهم في استصلاح آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وبنيت متنزهات ومطاعم على ضفتي النهر، وأعيد ترميم المجرى داخل المدينة ليصبح متنفساً جديداً لأهالي حلب، لكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، فمع بداية الثورة السورية، توقفت عملية ضخ المياه، ليعود النهر إلى حالته السابقة، إذ جفت الأراضي في أرياف حلب، وفقدت المحاصيل الاستراتيجية، وتحولت الزراعة إلى بعلية، ما أجبر العديد من الأهالي على هجرة الحقول بحثاً عن مورد رزق بديل.

رغم طوله، وتاريخه، وتأثيره في حياة الناس، لم يعرف “قويق” في ذاكرة الحلبيين كنهر حقيقي، بل ظل في الوجدان رمزاً للإهمال والتلوث والروائح الكريهة، بعيداً عن صورة النهر الذي يلهم الشعراء ويبعث الحياة.

آخر الأخبار
السيطرة الكاملة على حرائق ريف اللاذقية الشمالي ..واستمرار التبريد والمراقبة وزير الطوارئ: 1875 متراً من الشجاعة.. رجال الإطفاء يروّضون النيران في حرائق المشيرفة الشرع يبحث مع مساعد وزير الاستثمار السعودي التعاون المشترك إجراء نوعي للعيادة القلبية بمستشفى حماة الوطني وزير الدفاع لرجال الجيش: أوصيكم بحماية أهلكم المواطنين في السويداء نقاشات اقتصادية إيجابية بين سوريا والأردن ..  فتح آفاق جديدة للتعاون والاستثمار الداخلية: دورنا حفظ الأمن وحماية المدنيين في السويداء الشيباني يبحث مع كالاس تعزيز العلاقات بين سوريا و"الأوروبي" تفعيل التعاون بين حسياء الصناعية ومؤسسة الخبراء الألمان بين الشرق والغرب.. مفاجأة لوجستية في قلب الساحل السوري العمل الحكومي المؤسساتي.. ضرورة تنموية في ظل التحديات خارطة طريق لتعزيز التشارك بين الوزارات الغابات رئة سوريا .. كيف نحميها؟ أحدث الطرق لاكتشاف الحرائق لحظة حدوثها تراجعت زراعته إلى النصف.. التبغ هل سيبقى محصولاً استراتيجياً ؟ الظروف المناخية وصعوبة ترحيل الخلايا تخفض إنتاج العسل بطرطوس فيرشينين: الاتصالات بين دمشق وموسكو حول القواعد الروسية مستمرة المملكة المتحدة: سوريا تلتزم بشكل كامل بتدمير بقايا برنامج "الكيميائي" "مجازر الكيميائي".. جرائم لا تسقط بالتقادم.. هبوط حاد بالأسعار وانتعاش لقطاع الموبايلات بطرطوس الثروة الحيوانية في طرطوس.. تحصينات وقائية ضد الأمراض وصعوبات تواجه المربين اقتصاد سوريا الأزرق.. القبطان محمد جمال عثمان لـ"الثورة": استثمار "موانئ دبي" مقدمة لنهضة في صناعة ...