الثورة -هنادة سمير:
إعادة هيكلة الجهاز الحكومي بوصفه حجر الأساس لأي عملية بناء مؤسسي حقيقية تبدو حاجة ملحة في ظل التحولات التي تشهدها سوريا.
وفي هذا السياق يأتي مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد في مقدمة هذه المحاولات، حاملاً وعودًا بإصلاح بنيوي في العلاقة بين الدولة وموظفيها، وتحويل الوظيفة العامة من موقع راكد إلى مساحة تنافسية قائمة على الكفاءة والعدالة.
مما يطرح التساؤلات حول القدرة الفعلية لهذا المشروع على كسر الإرث الإداري الثقيل وتجاوز التحديات السياسية والاجتماعية التي لطالما كبّلت مؤسسات الدولة.
ملاذ البطالة
يبين الباحث في الإدارة العامة عماد منصور في لقاء لصحيفة الثورة، أن الوظيفة العامة في سوريا ارتبطت لعقود طويلة بمفاهيم الامتياز والثبات والمكانة الاجتماعية، لا بالكفاءة والفعالية وتحولت الوظائف الحكومية تدريجيًا إلى ملاذ للبطالة المقنّعة أو وسيلة للولاء السياسي، ما أدّى إلى ترهل إداري خطير، شل قدرات الدولة على تقديم خدمات فعالة للمواطنين.
ويرى أن مشروع القانون الجديد يبدو في هذا السياق محاولة لإعادة تعريف هذه العلاقة على أسس مهنية حديثة، تضمن وضوح الأدوار والحقوق والواجبات، وتربط الأداء الفردي بالمحاسبة والمكافأة.
ويؤكد الباحث منصور أن القانون الجديد يشكّل فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة وموظفيها، ويشدد على أن النجاح لا يكمن فقط في جودة النصوص وحدها، بل في البيئة التي تطبق فيها.
مضيفاً: رأينا في التجارب السابقة، داخل سوريا وخارجها، أن القوانين المتقدمة يمكن أن تتحول إلى حبر على ورق إذا لم تتوفر الإرادة والبيئة المؤسسية التي تضمن تنفيذها بعدالة وشفافية.
جديد القانون
ولفت الباحث منصور إلى أن أهم ما يجب أن يركز عليه القانون الجديد هو: التوصيف الوظيفي الدقيق بحيث لا يبقى الموظف حبيس مهام غير واضحة أو مزدوجة، وكذلك نظام ترقية عادل يُبنى على الكفاءة والإنجاز وليس على القِدم أو العلاقات الشخصية، إضافة لتوفير آليات تقييم موضوعية تعتمد معايير كمية ونوعية، يتاح الطعن فيها بطرق قانونية، وتحديث أنماط العمل بحيث تواكب التطورات الرقمية والتغيرات في سوق العمل، بما يشمل المرونة والإنتاجية.
وأشار إلى أنه وبحسب وزارة التنمية الإدارية، فإن مشروع القانون المطروح يتضمن إعادة هيكلة للفئات الوظيفية، وتنظيماً جديداً لأنماط العمل داخل الجهاز الحكومي، مع التركيز على بناء منظومة موارد بشرية احترافية قائمة على الكفاءة والعدالة والمرونة التشغيلية.
كما يضع القانون تصورات لعلاقة واضحة بين الدولة والعامل، تحدد الحقوق والواجبات بدقة، وتفتح الباب أمام اعتماد سياسات حديثة في التوظيف والترقية والتوصيف المهني بهدف تكريس مفهوم الوظيفة العامة كمجال تنافسي ومحفز للتميّز، وليس مجرد موقع للركود والضمان الاجتماعي.
تحديات
رغم أهمية الخطوة، يرى الباحث منصور أن هناك أربع تحديات أساسية تهدد أي قانون إصلاحي في الإدارة السورية: أولها: الإرث الإداري المتكلس، إذ ما زالت كثير من المؤسسات تدار بعقلية البيروقراطية الورقية، وثانيها: المقاومة الداخلية للتغيير من قبل أطراف مستفيدة من بقاء النظام القديم للمحسوبيات، أما ثالثها فهو ضعف البنية الرقمية التي تجعل من التقييم والمتابعة والتطوير أمراً صعباً.. ورابعها الغياب المؤسسي للنقابات المهنية الفاعلة التي يمكن أن تراقب وتحمي حقوق العاملين في ظل التشريعات الجديدة.
الشفافية والمشاركة المجتمعية
ويوضح الباحث منصور أن أي محاولة لتجاوز هذه التحديات يجب أن تبدأ من الشفافية، والمشاركة المجتمعية في صياغة السياسات الوظيفية، ونشر مسودة القانون للرأي العام قبل اعتماده.
ووفق تعبيره: نحن بحاجة إلى لحظة تأسيسية، تتجسد في قدرة القانون على كسر الجمود، وتمكين القيادات الإدارية المؤهلة، وتحرير الوظيفة العامة من الإرث الثقيل للمحسوبيات والشللية، مضيفا: إن الجوهر الحقيقي للقضية يكمن في أن مشروع قانون الخدمة المدنية في سوريا ليس مجرد ورقة إصلاحية، بل هو اختبار حقيقي لإرادة الدولة في بناء إدارة جديدة تتجاوز منطق المكاتب المغلقة والقرارات الاعتباطية فالرهان الأكبر اليوم في توفير بيئة إدارية صالحة لنمو القانون.
فالإصلاح الإداري هو ثقافة كاملة تبدأ من احترام الموظف، وتنتهي بخدمة مواطن يضع ثقته في مؤسسات دولته.