الثورة – إيمان زرزور:
تحوّلت ظاهرة التسوّل في سوريا من مشهد تقليدي على أرصفة الشوارع أو عند إشارات المرور إلى ظاهرة وسلوك يومي متكرر، يحمل في عمقه مؤشرات خطيرة على التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، حيث بات من الصعب التمييز بين من يتسول بدافع العوز الحقيقي، ومن يمتهنه كوسيلة احتيال أو حتى ضمن شبكات منظمة.
ورغم أن الفقر والبطالة والنزوح كانت ولا تزال من أبرز العوامل التي تغذي الظاهرة، إلا أن ما نشهده اليوم يكشف عن بُعد آخر أكثر تعقيداً، ففي أحياء المدن السورية، يبرز المتسولون بأشكال مختلفة: أطفال حفاة يطاردون السيارات، نساء يحملن أطفالاً نائمين طوال النهار، رجال بادعاءات إصابة أو عجز، وشباب في كامل صحتهم يطلبون المال بطريقة فجّة أو بأسلوب استعطاف ممنهج.
وتُعزى تفاقم هذه الظاهرة إلى عدة عوامل متداخلة، أبرزها انهيار البنية الاجتماعية، حيث خلفت الحرب آلاف الأسر بلا معيل ولا دخل، ما جعل الشارع وسيلة وحيدة للبقاء، وغياب الرقابة والتشريع بسبب ضعف دور البلديات والجهات الرسمية في مراقبة الشوارع، وغياب آليات فعالة لرصد ومتابعة حالات التسوّل.
تقارير ميدانية كشفت عن وجود شبكات تستأجر النساء والأطفال وتوزّعهم في أماكن مختلفة، تتحكم بمواقعهم، وتُحدد لهم حصصاً يومية من “الأرباح”، في حين يتبرع كثيرون بدافع الشفقة، دون تمييز بين المحتاج الحقيقي والمتسوّل الممنهج، ما يعزز الظاهرة ويكرّس استمراريتها.
من خلال رصد ميداني يوضح تعدد الفئات ضمن مشهد التسوّل يظهر المحتاج الحقيقي وهو ضحية فقر مدقع أو ظروف قاهرة، أو المتسوّل المحترف وهو شخص يمتهن التسوّل ويتنقّل بين المدن، كذلك المُستغل وهو غالباً امرأة أو طفل يُجبر على التسوّل لصالح طرف آخر، ومنهم الموسمي الذي يظهر في رمضان أو أمام الجوامع فقط، وكذلك المتنكّر الذي يدّعي إصابة أو إعاقة لا أساس لها من الصحة.
تُسهم هذه الظاهرة في العديد من الآثار الاجتماعية، منها تغييب صورة المحتاج الحقيقي وسط الزيف، واستغلال الطفولة وتعطيل حق التعليم، ونشر ثقافة الاتكالية والاعتماد على الشفقة، علاوة عن تشويه صورة المدن السورية أمام الزائر والمقيم، وتقويض ثقة الناس في المبادرات الخيرية والمساعدات الإنسانية.
ولمواجهة الظاهرة، يقترح مختصون ومراقبون بتشديد الرقابة على التجمعات المعروفة بالتسوّل، وإطلاق حملات توعية لتمييز المحتاج من المحتال، ودعم منظمات موثوقة تقدم المساعدة المنهجية، وبرامج تشغيل وتأهيل تستهدف الفئات الهشة، وملاحقة قانونية لأي جهة تستغل الأطفال والنساء في التسوّل.
وفي وجه اتساع ظاهرة التسوّل وتحولها إلى تجارة تستغل الضعفاء، لا بد من وقفة مجتمعية شجاعة، فالمحتاج الحقيقي لا يجب أن يُترك، لكن التستر على الاحتيال باسم الفقر، هو جريمة مزدوجة: بحق المجتمع، وبحق الفقراء الذين خسروا فرص الدعم العادل وسط طوفان التزوير والابتزاز العاطفي.