الثورة – جهاد اصطيف:
في شوارع حلب.. مواجهة بلا دخان ولا رصاص، أبطالها باعة يسابقون الجوع، وسكان يسابقون الفوضى..!وسط مدينة أنهكتها الحرب وتنهض اليوم من تحت الركام، تدور معركة يومية لا يسمع فيها أزيز رصاص، بل صراخ الباعة، واحتجاجات المارة، وضجيج مكبرات الصوت، إنها صراع “الأسواق العشوائية” التي باتت تفرض وجودها بقوة الأمر الواقع، بين أرصفة مخنوقة، وطرقات محتلة، ولقمة عيش لا تعرف الانتظار.
ندرك أن هؤلاء الباعة يبحثون عن قوت يومهم، لكن التنظيم لم يعد خياراً، بل ضرورة ملحة للحفاظ على المظهر الحضري والراحة العامة.
فهل يمكن تنظيم هذا الفلتان الحضري من دون اللجوء إلى الترحيل القسري.. وهل تملك الجهات المعنية رؤية توازن بين حق العيش وحق العبور؟
في السطور التالية، كلمات من قلب الأزمة، إذ تتقاطع روايات الباعة، وشكاوى السكان، ومحاولات مجلس المدينة في الإمساك بالعصا من المنتصف.
سوق باب الجنان.. “عصي على الترحيل”في قلب المدينة، وتحديداً في سوق باب الجنان، تتجلى المفارقة بوضوح، الباعة هنا يرفضون مغادرة مواقعهم، والمستهلكون يفضلون قرب السوق من مركز المدينة ومواقف النقل، فيما دوريات مجلس المدينة تلاحق المخالفات بشكل دوري، لتعود البسطات إلى مكانها فور انتهاء الحملة.
يقول طاهر- أحد أصحاب البسطات في السوق: لسنا ضد التنظيم، بل على العكس، نحن مستعدون لدفع أي رسوم تفرضها البلدية وتنظيف المكان يومياً بعد انتهاء البيع، فقط نريد البقاء حيث يوجد الزبائن، ويشاركه الرأي العديد من أصحاب المحال المجاورة، الذين يرون في بقاء السوق مصلحة مشتركة، طالما أن هناك تنظيماً يحفظ المظهر العام ويضمن عدم تعطيل الطرقات.
لكن مجلس المدينة يواجه تحدياً حقيقياً في ضبط هذا السوق، الذي يتحول سريعاً إلى ما يشبه “المربع العصي على السيطرة”، في ظل عدم التجاوب مع البدائل من حيث الموقع والخدمات.
مواجهة الضجيج والفوضى
وعلى الطرف الآخر، يقف حي الشعار كمثال حي لوجهة نظر مغايرة تماماً، إذ أطلق الأهالي نداء استغاثة يطالبون فيه بإنهاء ما وصفوه بـ”الاحتلال الكامل للأرصفة والشوارع”، من قبل البسطات والعربات.
يقول أبو أحمد- أحد سكان الحي: لا نستطيع السير على الرصيف، والأطفال معرضون يومياً لخطر السيارات، ناهيك عن الإزعاج المتكرر من مكبرات الصوت والصراخ الذي لا يراعي حرمة البيوت.
ويؤكد عدد من سكان الشارع العام أنهم لا يرفضون وجود الباعة، ولكنهم يريدون تنظيماً واضحاً يحترم النظام العام وحق السكان في الراحة والتنقل، من دون صدامات يومية بين الباعة والأهالي.
مجلس المدينة أمام مفترق طرق
تبدو المفارقة واضحة.. في باب الجنان يطالب السكان بالإبقاء على السوق كما هو، وفي الشعار يطالبون بإزالته أو ترحيله، والجامع بين الحالتين هو غياب التنظيم الحضري الشامل.
وفي ظل الواقع الاقتصادي الصعب، يعجز الكثير من المواطنين عن فتح محال تجارية نظامية، فيلجؤون إلى البسطات كبديل وحيد، ما يضع مجلس المدينة أمام خيارين أحلاهما مر.. هل ينظم الأسواق العشوائية، أم يزيلها ويزيد من حدة البطالة والفقر؟.
تنظيم لا ترحيل
يرى متابعون أن الحل لا يكون في الإزالة الكاملة أو الإبقاء العشوائي، بل في إنشاء أسواق مخصصة ومدروسة داخل الأحياء، تضمن القرب من مراكز النقل والمستهلك، مع فرض رسوم مقبولة، وتحديد خطوط واضحة للبسطات، ومنع أي تجاوزات تهدد الراحة العامة أو تعيق حركة المرور.
كما يقترح إشراك المجتمع المحلي في اتخاذ القرار، عبر لقاءات تنسيقية بين البلديات، والباعة، وسكان الأحياء، لتصميم حلول توافقية تضمن الحد الأدنى من الحقوق لكل الأطراف.
رؤية مرنة وعادلة
ما بين حق الساكن في الراحة، وحق البائع في الرزق، تقف مدينة حلب على مفترق طرق في ملف “الأسواق العشوائية”، وهي بحاجة ماسة اليوم إلى رؤية عمرانية مرنة وعادلة، تنحاز إلى التنظيم، من دون أن تتجاهل المعاناة الاقتصادية التي ترزح تحتها فئات واسعة من السكان.
فهل تنجح الجهات المعنية في إيجاد صيغة توفق بين المثالين المتناقضين!؟ نأمل ذلك، لأن حلب تستحق حلولاً لا تبنى على حساب طرف من دون آخر.