الثورة – فردوس دياب:
يُحيي العالم في الثلاثين من آب من كل عام، ذكرى ضحايا الاختفاء القسري، تلك الجريمة التي تُرتكب بصمت، وتترك خلفها فراغاً لا يُحتمل في حياة الأفراد والمجتمعات، لاسيما إذ تحولت هذه الجريمة “الاختفاء القسري” إلى سياسة ممنهجة كما في سوريا أيام النظام البائد، التي بدأها منذ اندلاع الثورة عام 2011، إذ لا تزال آلاف العائلات تعيش في انتظار الحقيقة، وتحقيق العدالة.
مأساة بلا نهاية
بمناسبة هذه الذكرى المؤلمة، التقت صحيفة الثورة، الباحث والمتخصص في مجال الاختفاء القسري المحامي أحمد عبد الرحمن، الذي قال في مستهل حديثه: “إن المنظمات الحقوقية تقدر عدد المختفين قسراً في سوريا بعشرات الآلاف، من بينهم نشطاء، طلاب، أطباء، أطفال، ونساء، إذ تم توثيق حالات اختفاء في مراكز احتجاز رسمية وسرية، وفي نقاط التفتيش، وحتى من داخل المنازل، وهذه الممارسات لم تكن فردية، بل اتخذت طابعاً ممنهجاً، يُستخدم كأداة للترهيب السياسي والاجتماعي”.
وأكد أنه لا يمكن الحديث عن العدالة دون جبر الضرر، الذي يشمل الاعتراف الرسمي بالانتهاك، وتقديم تعويضات مادية ومعنوية، وإعادة الاعتبار للضحايا وأسرهم، وتقديم الضمانات بعدم التكرار.
وأضاف المحامي عبد الرحمن: في ظل وجود آلاف الحالات غير الموثقة، تبرز الحاجة إلى تشكيل فريق متخصص في أنثروبولوجيا الطب الشرعي، تكون مهمته تحديد مواقع المقابر الجماعية، واستخراج الرفات وتحليلها، ومطابقة الحمض النووي مع بيانات الأسر، وتوثيق الأدلة الجنائية لاستخدامها في المحاكمات، مبيناً أن هذا الفريق لا يمثل فقط خطوة علمية، بل هو فعل إنساني تجاه الضحايا وذويهم، وركيزة أساسية في بناء الحقيقة.
لا مساومة على الحقيقة
وأوضح الباحث في مجال الاختفاء القسري، أنه من أبسط الحقوق التي يجب أن تُكفل للأهالي هو معرفة مصير أبنائهم، لأن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، ولا يمكن التفاوض عليه، فكل أم تنتظر، وكل طفل يسأل، وكل زوجة تأمل، هم شهود على استمرار الجريمة، إن تجاهل هذا الحق هو استمرار للاختفاء القسري بوجه آخر.
وتابع: “إن الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، ولا يمكن أن تُطوى صفحتها من دون محاسبة مرتكبيها، ويجب أن يخضع كل من تورط في هذه الجريمة، سواء بالأمر أم التنفيذ أم التستر، للمساءلة القانونية أمام محاكم مستقلة، فالمصالحة لا تُبنى على النسيان، بل على الحقيقة والعدالة”.
تخليد الذكرى
وأضاف: “في مواجهة النسيان، يصبح تخليد ذكرى الضحايا فعلاً مقاوماً يمكن أن يتجسد عبر إنشاء نصب تذكارية تحمل أسماء المختفين، وتوثيق قصصهم في أرشيف وطني، وإدراج قضيتهم في المناهج التعليمية، وتنظيم فعاليات سنوية تُعيد سرد الحكاية وتُبقيها حيّة، مع العلم أن تخليد الذاكرة لا يُعيد الغائبين، لكنه يمنحهم حضوراً رمزياً، ويُرسّخ في الوعي الجمعي أن الحقيقة لا تُدفن، وأن العدالة لا تُنسى.
وختم المحامي عبد الرحمن حديثه بالقول: “في هذا اليوم العالمي، لا يكفي التضامن الرمزي، المطلوب هو تحرك فعلي، يبدأ بالاعتراف، ويمر بجبر الضرر، ويصل إلى المحاسبة، ويتوّج بتخليد الذاكرة، سوريا تستحق أن تُفتح ملفاتها، لا لتأجيج الألم، بل لتضميد الجراح، وبناء مستقبل لا مكان فيه للاختفاء، ولا للظلم، ولا للنسيان”.