السـويداء – تحقـيق – عبـدالغـني العـريان
“بُقر بطن امرأة حامل في مدينة شهبا بريف محافظة السويداء، وسُحب جنينها من رحمها، قبل أن تُترك جثتها على قارعة الطريق، تنهش الكلاب والضواري وجهها”.
كان ذلك واحداً من مشهدين وثّقهما شعبان الحمد، الناجي من المذبحة. في المشهد الآخر، قُطع رأس طفل برشاش “دوشكا”، الرأس على طرف والجسد على طرف آخر، فيما بقيت أمه غارقة في دمائها.
امرأة بدوية تقول ان مقاتلي الدروز قتلوا طفل حديث الولادة مع امه ..
— Wael Essam وائل عصام (@WaelEssam77) July 19, 2025
وقد وُجد اسماهما ضمن قائمة مكتوبة بخط اليد تضم عشرات القتلى من العشائر البدوية في السويداء، بينهم نساء وأطفال، كتبها نازحون من شهبا لتوثيق من عرفوا من القتلى.

في صباح 17 تموز/يوليو 2025، انسحبت قوى الجيش الأمن السوري من المحافظة، ليملأ الفراغ مقاتلون محليون من فصائل محلية منهم مرتبطة بالمجلس العسكري في السويداء.
يكشف التحقيق للمرة الأولى تفاصيل اجتماع سرّي في مزرعة قاده الشيخ حكمت الهجري، بحضور قادة فصائل محلية، حيث وُضعت خطة لطرد العشائر البدوية بالقوة من السويداء
الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي فجراً، فتح الباب أمام هذه الفصائل لتنفيذ عمليات قتل ميداني وحرق ونهب للمنازل بشكل ممنهج في أكثر من 9 قرى وأحياء بينهم حي المقوس وشهبا وسهوة بلاطة والكفر.
شهادة أحد الحاضرين في الاجتماع تؤكد أن ما جرى لم يكن صداماً عابراً، بل عملية معدّة مسبقاً استهدفت المدنيين البدو، بمن فيهم أطفال ونساء.
في اليوم نفسه، وثّق ناجون من شهبا والمقوس مقتل ما لا يقل عن 60 شخصاً من أقاربهم وجيرانهم عبر قوائم مكتوبة بخط اليد، وقد دفنوهم على عجل، فيما بقي عشرات آخرون في عداد المفقودين حتى اليوم.
يبيّن التحقيق أن ما لا يقل عن 11 موقعاً شهدت عمليات قتل وتهجير، بينها المقوس، وشهبا، وسهوة بلاطة، والكفر، وولغا، وأم الزيتون، وصلخد، وريمة اللحف، والمزرعة، وطريقا الهروب نحو درعا ودمشق حيث تعرّض الفارون عبرهما للاستهداف.
في هذه المناطق، رُصدت عمليات نهب وحرق ممنهج للمنازل، واعتقالات واسعة طالت النساء والأطفال، وتهجير عوائل بأكملها، في واحدة من أكبر حملات التهجير القسري التي شهدتها المحافظة منذ اندلاع الصراع
الشرارة الأولى
في 11 تموز/ يوليو 2025، هاجم مسلحون بدو شاحنة خضار على طريق دمشق – السويداء، واعتدوا على سائقها المنتمي الى الطائفة الدرزية وسرقوا الشاحنة.
لم تمضِ ساعات حتى ردّت مجموعات درزية بخطف عدد من البدو، ليتبعهم البدو بخطفٍ مماثل.
خلال يومين فقط، تحولت حوادث الخطف إلى مواجهات عنيفة غرب محافظة السويداء وداخلها، تخللها قصف للقرى وحصار للأحياء البدوية، وسقط خلالها قتلى وجرحى من الطرفين، بينهم مدنيون.

في 14 تموز، دخلت قوات الجيش والأمن السوري المحافظة لمحاولة فرض النظام كقوة فصل، لكنها اصطدمت برفض الفصائل المحلية المرتبطة بالشيخ حكمت الهجري.
تعرضت تلك القوات لكمائن متزامنة في عدة مواقع داخل السويداء، انتهت بمقتل وأسر عدد من عناصرها، وسط انتشار مقاطع فيديو عن تمثيل بالجثث وعمليات قتل ميداني.
في الوقت نفسه، شنت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية ضربات داخل السويداء امتدت لاحقاً إلى دمشق، حيث استهدفت وزارة الدفاع ومحيط قصر الشعب (القصر الرئاسي).
“الانسحاب العسكري من السويداء لا يمكن قراءته كقرار معزول أو ارتجالي، هو ثمرة تقدير استراتيجي دقيق للواقع السياسي والأمني في سوريا أمام تصاعد الضربات الإسرائيلية على مراكز حساسة، وتنامي الاحتقان الداخلي”
المحلل العسكري ضياء قدور لـ “الثورة”
مع فجر 17 تموز/يوليو 2025، بدأ الانسحاب فعلياً، وتثبّت القرار في خطاب تلفزيوني عاجل ألقاه الرئيس السوري أحمد الشرع، أعلن فيه أنّ قوى الجيش والأمن السوري “خفّضت مهامها في السويداء” وأن مسؤولية الأمن أُحيلت إلى الفصائل المحلية ومشايخ العقل، مبرّراً ذلك بـ”المصلحة الوطنية العليا” بعد أن تعرضت دمشق، ومعها وحدات الجيش التي حاولت التدخل في السويداء، لقصف إسرائيلي مباشر.
“رافق الانسحاب إجراءات للحد من الفراغ الأمني، أبرزها التنسيق مع وجهاء السويداء ومشايخ العقل لمنع الفوضى”
المحلل العسكري ضياء قدور لـ”الثورة”
شدّد الشرع في خطابه على أن الدولة ستُحاسب “كل من انتهك حقوق الدروز، فهم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن”، في محاولة لطمأنة المجتمع المحلي وامتصاص التوتر.
عقب الفراغ الذي سببه انسحاب الجيش والأمن، تم تنفيذ انتهاكات بحق البدو؛ ورغم كونها انتهاكات تجلت بالقتل والنهب والتهجير والاعتقال القسري، فقد تم تصويرها من قبل وسائل إعلام على أنها رد فعل على الانتهاكات التي قام بها عناصر الجيش والأمن، لكن الوثائق والأدلة/ من بينها شهادات، تظهر خلاف ذلك
لكن سرعان ما تبيّن أن هذا الإعلان لم يوقف الفوضى، بل ترك المحافظة في فراغ أمني شامل استغلّته الفصائل المسلحة لبدء تنفيذ مخططها ضد الأحياء البدوية.
التحريض والتهيئة للانفجار
لم يكن ما صدر عن اجتماع المزرعة قراراً مفاجئاً؛ في الساعات التي سبقت الاجتماع وخلال يوم 17 تموز نفسه، كان وسم “السويداء_تحارب_الإرهاب” يسجّل قفزة غير مسبوقة؛ نحو 17,826 منشوراً خلال 24 ساعة، وفق تحليل بيانات من مصادر مفتوحة؛ وفي اليوم التالي ارتفع العدد إلى 19,583 منشوراً، ما مثّل الذروة الرقمية للحملة.

أكثر من ثلاثة أرباع هذا النشاط كان إعادة تدوير لمحتوى أصلي محدود، في مؤشر على حملة تعبئة منسقة؛ أما الكلمات الأكثر تكراراً تحت الوسم فشملت: “ذبح، اقتلاع، إرهاب، ثأر، الكرامة”.

كيف تحققنا؟
جرى التحقق من هذه البيانات عبر تحليل نشاط الوسوم باستخدام أدوات رصد رقمية مفتوحة المصدر، ومطابقة النتائج مع أرشيف النشر العام، ما أظهر منحنىً واضحاً يؤكد أن الحملة لم تكن تفاعلاً عفوياً، بل تعبئة منسقة بلغت ذروتها في 17 و18 تموز
توازى هذا الانفجار الرقمي مع مقاطع مصوّرة تداولتها منصات محلية، عن كمائن استهدفت الجيش السوري وتمثيل بجثث عناصره، إضافة إلى اعتقالات عشوائية طالت مدنيين بدو داخل المدينة.
ومع تزايد الخطاب المتشنج تحت الوسم، راحت صفحات شخصية تُضخّم التحريض بشكل مباشر؛ على فيسبوك كتب المدعو حيدر إياد السهناوي داعياً إلى الفزعة الى شهبا: “اقتلو الرضيع قبل الكبير من هالخنازير”.
وفي تعليقات أخرى على منشورات للمقاتل حسام بريك، تكررت عبارات مثل: “اليوم يومكم لتطهير المحافظة”، و”ما لازم يضل واحد منهم بينا”، و”كل البدو لازم يترحلوا وبيوتهم تنمحي عن وجه الأرض”.
هذا التزامن بين التصعيد الميداني والتضخيم الرقمي ساهم في تصوير البدو كـ”خطر وجودي يجب اقتلاعه”، الأمر الذي هيّأ الأرضية لاجتماع المزرعة، حيث اتخذ القرار الفعلي بالهجوم.
اجتماع المزرعة.. ساعة الصفر
بعد ساعات قليلة من الانسحاب المفاجئ لقوى الجيش والأمن السوري من السويداء فجر 17 تموز/يوليو 2025، بدأت حركة غير مألوفة تشق طريقها نحو أطراف بلدة قنوات.
هناك، في مزرعة شبه مهجورة تحوّل المكان إلى مركز تخطيط سرّي، اجتمع فيه أبرز قادة الفصائل المحلية كـ عميد جريرة، وبهاء الشاعر، وأبو ذياب، وطارق الشوفي، إلى جانب شخصيات عسكرية ومحلية من الصف الأول، بهدف وضع خطة لطرد العشائر البدوية بالقوة.
العنصر في المجلس العسكري “رائد” (اسم وهمي)، والذي يعمل مرافقاً لطارق الشوفي، يقول إنه في السابعة والنصف صباحاً من يوم الخميس جُهّز مع مجموعته بالكامل، ثم نقلوهم إلى مكان مجهول، ليتضح لاحقاً أنها مزرعة تقع في محيط بلدة قنوات.
وبحسب “رائد” فإن طارق الشوفي ما إن ولج إلى إحدى غرف المزرعة حتى اتجه مباشرة نحو طاولة خشبية كبيرة في المنتصف، فرد عليها خرائط عسكرية للمنطقة، شيئاً فشيئاً راحت السيارات الإضافية تصل تباعاً؛ عميد جريرة، وبهاء الشاعر، وأبو ذياب، وتبعهم آخرون من بينهم زاهر الخطيب واسامة علبة وبسام حمزة.

يصف رائد المشهد بأنه كان مشحوناً، وأصابع القادة بدأت تتنقل بين القرى والطرق الفرعية المرسومة على الخرائط، تُقسَّم المجموعات وتُحدَّد ساعة التحرك
في تلك اللحظة، كما يصف رائد، تحولت المزرعة إلى ما يشبه غرفة عمليات متكاملة بقيادة الشيخ حكمت الهجري؛ الأصوات انخفضت، والخرائط مُدت على الطاولة، والأقلام بدأت ترسم خطوط الهجوم وتوزيع المجموعات.
الاجتماع الذي استمر لأكثر من ساعة خرج بقرار واضح؛ يكون الهجوم الأول على حي المقوس، ثم يتبعه هجوم كامل على باقي القرى، مع تأكيد صريح على احتجاز أكبر عدد ممكن من البدو، ودفع من تبقى منهم قسراً باتجاه دمشق أو درعا.
رواية رائد لم تكن الوحيدة؛ “أبو رامي” (اسم مستعار)، مزارع من قنوات، أكد أنه شاهد بأم عينه عشرات السيارات تتجه إلى المزرعة صباح ذلك اليوم، قبل أن تخرج مجتمعة بعد ساعة أو أكثر، معظمها كانت سيارات عسكرية، ولاحظ على إحداها شعاراً بارزاً كُتب عليه “بيرق قاهرون”.

هذه الشهادات تلاقت مع دلائل رقمية وثقت توقيت التحركات؛ عند الساعة 10:05 صباحاً من يوم 17 – 07 – 2025 نشر رياض الشاعر مقطع فيديو من داخل حي المقوس أعلن أنه في أحياء البدو “سابقاً”، ما يؤكد أنه كان الهدف الأول للهجوم.
بعد ذلك بأقل من 10 دقائق، أي عند الساعة 10:12 صباحاً، ظهر حسام بريك على صفحته في فيسبوك بصورة مع مجموعة مسلحة في ساحة الكرامة داخل مدينة السويداء أي قبل دخوله مدينة شهبا.
ليعود ويظهر مجدداً بفيديو قام بحذفه بعد ساعة من نشره من داخل مدينة السويداء أي بعد الانتهاء من حي المقوس مهدداً برفقة صديقه بالذبح بالسكين، جاء النشر الساعة 10:55 صباحاً، أي قبل نصف ساعة من دخوله أحياء البدو في مدينة شهبا.
وقد أكد عدد من الشهادات وجود حسام بريك في شهبا وارتكابه عمليات تصفية ميدانية، هذا التزامن كشف أن العمليات جرى تنسيقها مسبقاً لتبدأ وفق خطة موحدة.
المدنيون البدو من قرى السويداء أكدوا أن الهجوم الشامل بدأ قرابة الساعة 11:50 صباح يوم الخميس، وهو ما يتقاطع مع منشورات عناصر الفصائل التي حضرت اجتماع المزرعة.
شهادات من داخل شهبا تعكس جانباً آخر من التخطيط، هيثم شباط، أحد سكان المدينة، قال: “العملية كانت مدبرة مسبقاً أعلمنا بعض أهالي شهبا الشرفاء أن المجزرة كانت قادمة، وأن هناك ترتيباً سرياً قبل تنفيذها”.
أما حسن حسين المهدي من شهبا فأكد قائلاً: “الساعة 11 من يوم 17-7، الهيئة الروحية ومشايخ العقل أعطوا أمراً بترحيل البدو وتهجيرهم خلال ساعة، لكنهم خلفوا الوعد، وبعد خمس دقائق فقط بدأ الهجوم، جاءت الفصائل بسلاح ثقيل وبدأت عمليات القتل”.
في مرحلة المواجهة، تواصلنا مع “الرئاسة الروحية للموحدين الدروز” عبر البريد الإلكتروني وصفحتهم الرسمية على فيس بوك، وعرضنا عليهم تفاصيل تحقيقنا الاستقصائي؛ ورغم محاولاتنا المتكررة، لم نتلقَ أي رد أو توضيح رسمي حول ما يجري، كما حاولنا التواصل مع ناشطين من داخل السويداء للحصول على شهاداتهم أو تعليقاتهم، غير أنّ معظم هذه المحاولات قوبلت بالرفض أو الحظر المباشر، ما يعكس حساسية الموضوع داخل المحافظة وصعوبة الحصول على رواية من داخل المجتمع المحلي.
من قلب تلك المزرعة، التي تحولت في ساعات الصباح الأولى إلى غرفة عمليات، انطلقت الشرارة الأولى لمجزرة المقوس، وما تلاها من عمليات قتل وتهجير قسري لباقي أحياء البدو في السويداء.
راكان الخضير رئيس تجمع أحرار عشائر الجنوب لـ”الثورة”:
“نُحمّل شيخ طائفة الدروز حكمت الهجري أولاً، وعصابته المسلحة كل المسؤولية، ثم باقي المجتمع المحلي في السويداء بسبب سكوتهم في البداية عن حصار حي المقوس واستهدافه، ثم استهداف باقي الأحياء وفتح معركة ذهب ضحيتها كثير من الناس من الطرفين“
“هوية المسلحين كانت من دروز السويداء يتبعون للهجري والمجلس العسكري، وتوريط بعض الشباب في هذه المعركة، واللعب على الوتر الطائفي بحجة أن هؤلاء سيأتون ليقتلوكم ويعدموكم، واستثارة مشاعر الناس واستغلال عاطفتهم وتخويفهم، وتفرد الهجري بالقرار“
التهجير بالنار والدم
بين الساعة التاسعة والتاسعة والنصف من صباح يوم الخميس 17 تموز 2025، بدأ الهجوم على حي المقوس؛ كانت بداية الهجوم مفاجئة للعديد من السكان الذين لم يتوقعوا الهجوم العنيف الذي تعرضوا له.
يتذكر عمران السليم من حي المقوس قائلاً: “حينما بدأ الهجوم، تسللت مجموعات مسلحة كبيرة إلى الحي من جميع الجهات، حيث جاؤوا بالأسلحة الثقيلة والآليات العسكرية، بمجرد دخولهم، بدؤوا بالاعتداء على المدنيين دون تمييز”.
توالت الاعتداءات بسرعة حتى تم احتجاز الرجال واستخدامهم كدروع بشرية، بينما تم اختطاف النساء، واستمرت الهجمات لساعة كاملة، وقد شهد عدد من الناجين قصفاً مكثفاً للبيوت بالقذائف، ما أدى إلى تهدم العديد من المنازل، الشهادات أكدت أن الجثث كانت ملقاة في الشوارع، فيما كانت عمليات القنص تُنفذ من قبل المسلحين المتمركزين على أسطح المباني.
عبد الرزاق الصغير، أشار إلى أن الهجمات العنيفة والقصف المدفعي، الذي شهده حي المقوس، انتهى بعمليات حرق واسعة للمنازل، بعد أن قامت الفصائل المحلية بإضرام النيران في المنازل ونهب محتوياتها، ما دفع العائلات إلى الهروب إلى العراء أو البحث عن مأوى في الأماكن المجاورة.
كانت تلك العمليات جزءاً من محاولة تدمير الحي بشكل كامل، مع الإصرار على جعل العودة إلى تلك المنازل مستحيلة.
لم يكن حيّ المقوس سوى البداية؛ فبعد أن أُحرقت منازله واستهدف سكانه، تدحرجت الكارثة لتبتلع القرى والأحياء البدوية الأخرى.
عند الساعة 11:50 من صباح 17 تموز، انطلقت القوافل المسلحة من حي المقوس والمزرعة نحو تلك القرى في مشهد بدا وكأنه استكمالٌ لخطة رُسمت مسبقاً.
في شهبا، رُويت للبدو حكاية الأمان، ساعة واحدة للرحيل، لكن الساعة لم تكتمل حتى تحوّل الجامع الذي لجؤوا إلى ساحته لمصيدة. القصف والرصاص انهمر على الجموع المذعورة، بينما كان القنّاصة يتخيرون النساء والأطفال أولاً.
أسد الوهبان، وهو أحد الناجين من شهبا، قال إن المجزرة بدأت بالتطمينات الكاذبة، وانتهت حين سقطت العائلات برصاص مباشر وقذائف مضادة، حتى غطّت الدماء عتبات البيوت.
لم يكن المشهد أقل رعباً لدى تيسير حمد جهيم، الذي شاهد جاره عبد الرحمن الهوارين يُقتل مع كامل أسرته أمام بيته؛ نساء حاولن الاختباء في مغارة صغيرة بجانب البيت، لكن يد المقاتلين امتدت إليهن وانتهى بهن الحال مذبوحات.
نور الخطيب مديرة قسم التوثيق في الشبكة السورية لحقوق الانسان لـ”الثورة”:
“تلقى قسم التوثيق في الشبكة عدداً من البلاغات الأولية من مصادر محلية موثوقة، إضافة إلى شهادات مباشرة من شهود عيان وأقارب للضحايا. تشير هذه الإفادات إلى أن الضحايا كانوا من المدنيين غير المشاركين في أي عمليات قتالية، وأن عمليات التهجير ارتبطت بانتماءات عشائرية أو طائفية”
“تشير المعلومات الأولية التي حصلنا عليها – والتي لا تزال قيد التحقق – إلى تورط مجموعات مسلحة محلية، من بينها عناصر يُعتقد أنها مرتبطة بمليشيات تابعة لعائلة الهجري، في تنفيذ عمليات القتل أو التهجير”
أمام الجامع، ذُبح شاب أعزل فيما مُنع المسعفون من الوصول، وطفل من آل مخمس قنصته رصاصة في الرأس على الأوتوستراد، وسقط ميّتاً فيما بقي جسده ساعات على الإسفلت دون أن يتمكن أهله من دفنه.
View this post on Instagram
الوقت الذي أعطي للخروج لم يتجاوز عشر دقائق كما يقول هيثم شباط: “تجمّع المئات في الطرقات، فانهالت عليهم القذائف من جميع الاتجاهات”.
أكثر من ألفي شخص حُشروا داخل مسجد شهبا بحجة أن إسرائيل ستقصفهم أو أن عريقة ستبيدهم؛ الحقيقة، كما يروي حميد الصغير، أن الهدف كان التهجير: “أكثر من ثلاثين ألف إنسان، بهويات سورية رسمية، اقتُلعوا دفعة واحدة، نساء انتهكت، أطفال ضاعوا أو قُتلوا، وأمهات ولدن على قارعة الطريق”.
احفظو هذه الاسماء لوقت الحساب pic.twitter.com/pcyRaIHdMA
— Samira Sulaiman (@samfreesyria777) August 7, 2025
أسعد الصغير يؤكد أنه حتى لم يُسمح لهم بدفن موتاهم في المقابر، بل اضطروا لحفر قبور داخل البيوت.
أما تقويم قديس، تشرح عن رحلة الهروب نحو الأوتوستراد، قبل أن تبدأ القذائف من تل شيحان، ثم لحقت بهم مجموعات مسلحة واعتقلتهم.
وفي ريمة اللحف، خرج صوت الشيخ عبد الله الحمود مطلقاً نداءات استغاثة لعائلات افترشت العراء بعد أن أُحرقت بيوتها وقتل ابنائها، داعياً إلى فتح الطريق للهروب نحو درعا.
انتهت عمليات القتل وحرق المنازل في القرى والأحياء البدوية، وبدأت مرحلة الاحتجاز للمدنيين البدو، تجلت الشهادات التي قالها البدو المهجرين من أحيائهم في محافظة السويداء، أنهم نقلوا إلى الجوامع ومن ثم إلى المدارس ومنهم من وضعوا في مضافات شيوخ العقل.
فيديو يظهر أحد مشايخ العقل في السويداء وهو يستقبل عدد من العائلات البدوية يرحب بهم، وفي ذات الوقت يهددهم في حال وصلت العشائر المقاتلة إلى السويداء فسيكون عقابهم واحداً.
بعد ما حصل بـ بدو السويداء أجمع، وعقب الانتشار الكبير للفيديوهات والصور التي وثقت عمليات القتل والاعتقال وحرق المنازل من قبل الفصائل المحلية، أصدرت “الرئاسة الروحية للموحدين الدروز” بياناً طالبت فيه احترام البدو المسلمين.
فيما أدانت الناشطة والكاتبة هدى المحيثاوي من مدينة السويداء عمليات القتل والتهجير القسري التي حدثت مع البدو في السويداء من قبل الفصائل المحلية، معتبرةً أن هذا العمل هو سكين في ظهر سوريا.
ومع فجر 21 تموز/يوليو 2025، وبعد أيام من المجزرة، دخلت حافلات حكومية إلى السويداء لتنفيذ الاتفاق الذي رعاه مشايخ العقل مع المجلس العسكري. جُمعت العائلات البدوية على عجل، معظمهم نساء وأطفال، ونُقلوا في قوافل باتجاه ريف درعا الشرقي، وأخرى نحو دمشق.
في إطار الجهود التي تبذلها الحكومة السورية مع الأطراف في محافظة السويداء لوقف التصعيد، حافلات الحكومة تدخل إلى مدينة السويداء لإجلاء 1500 شخص من عشائر البدو.#سانا pic.twitter.com/d7EUzZZ20l
— الوكالة العربية السورية للأنباء – سانا (@Sana__gov) July 21, 2025
ما وُصف علناً بأنه “إجلاء حفاظاً على السلم الأهلي” كان في الواقع ترحيلاً قسرياً، إذ خرج أكثر من1500 مدني تحت الحراسة المشددة، تاركين بيوتهم المحروقة وراءهم دون يقين بعودة قريبة.
شعبان الحمد، الذي فقد نصف عائلته على يد الفصائل، وجد نفسه اليوم نازحاً في مدرسة متهالكة في طفس بريف درعا مع من تبقى من أقاربه.
بيته الذي ورثه عن أبيه تحوّل إلى ركام، ومزرعته التي كانت مصدر رزقه لم يبقَ منها سوى أبقار مذبوحة في الحظيرة.
قصته تكشف جوهر ما حدث؛ عملية اقتلاع كاملة لجماعة بشرية من أرضها، تحت غطاء الثأر، وباطنها ترحيل قسري.
ما جرى في المقوس، شهبا، سهوة بلاطة، لم يكن سلسلة أحداث متفرقة، بل سياسة ممنهجة؛ قتل، اعتقال، إحراق، ثم نقل بالباصات خارج المحافظة.
في مراكز الإيواء المؤقتة، يعيش الناجون اليوم وسط عوز وفقدان، لكن الأخطر أنهم يعيشون بلا يقين، فهل سيعودون يوماً إلى أرضهم، أم أن ما حدث كان بداية لتغيير ديموغرافي دائم تُرك ليكتمل بصمت؟
- التحقق: هادي خراط
- تصوير: عبدالعزيز نجم
- تصميم: إبراهيم درويش
- مونتاج: عبدالمحسن الصن