دمشق- علي إسماعيل:
إجراء إضافي يظهر عمق التحولات السياسية التي تجري في سوريا بعد التحرير، حيث أعلنت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب، عن توقيع مذكرة تفاهم مع خمس منظمات مجتمع مدني، بهدف تنفيذ برامج تدريبية وتوعوية مرتبطة بالانتخابات التشريعية لعام 2025. هذا الإجراء يفتح الباب على تغيير جوهري في آلية العمل السياسي الذي تقوده الدولة السورية الجديدة، لجهة تطبيق نماذج فريدة للديمقراطية تناسب الوضع القائم في سوريا، بما يعزز مشاركة شعبية أوسع في صنع القرار السياسي من خلال زيادة الوعي السياسي والتطبيق الفعال والعملي لمبدأ الشفافية.
بالطبع الواقع السياسي الموجود في البلاد يحتاج إلي هذه المبادرة وفق معايير عالية من الشفافية، خاصة بعد تاريخ طويل من حصر العملية الانتخابية في أطر ضيقة، كانت تهيمن عليها مبدأ “الحزب القائد”، لذلك ومن هذه النقطة تحديداً تبرز أهمية هذا الإجراء النوعي عبر تفعيل دور منظمات المجتمع المدني التي لم تكن سوى عنوان فارغ من مضمونه لجهة اختصاصه، لتكون اليوم جزءاً أساسيا من هذه العملية بوصفها استحقاقاً وطنياً حقيقياً، يعنى به كل أبناء الوطن كشركاء حقيقيين في البناء. هذه المنظمات التي تضم وحدة دعم الاستقرار (SSU)، ومنظمة اليوم التالي (TDA)، ووحدة المجتمعات والوعي المحلي (LACU)، ومنظمة النهوض بالمجتمع المدني (GLOCA)، ورابطة الشبكات السورية (SNL)، تتولى مسؤولية تنفيذ برامج تدريبية لكل من أعضاء اللجان الفرعية والهيئات الناخبة، إضافة إلى تنظيم حملات توعية شاملة، لتحقيق أهداف عدة منها -على سبيل المثال لا الحصر- إكساب القائمين والمشاركين بالعملية الانتخابية فهماً عميقاً لحقوقهم وواجباتهم الانتخابية، بما يعزز القدرات ويرسخ قيم المسؤولية والوطنية والنزاهة.
إضافة لذلك فإن هذه الشراكة تضمن التقيد بالتعليمات التنفيذية، بهدف تقليص الأخطاء وتحقيق أعلى درجات الجودة في العملية الانتخابية.
وبحسب تقارير إعلامية فإن هذا الإجراء يقوم على مرحلتين، الأولى منها تبدأ بتأهيل اللجان الفرعية، ثم تفعيل دور الهيئات الناخبة، لضمان عملية انتخابية في بيئة نزيهة قليلة أو معدومة الأخطاء.
الدراسة المتعمقة للانتخابات السابقة أفضت إلى تحديد نقاط ضعف في بنية العملية الانتخابية، والتي تركزت حول نقطتين جوهريتين، هي عدم المعرفة بالقوانين والإجراءات أولاً، ونقص الوعي الكافي ثانياً، لذلك فإن معالجة أخطاء العمليات الانتخابية السابقة سواء لدى أعضاء اللجان أم الناخبين أحد أهم الإيجابيات التي يبرزها هذا التوجه، وطبعاً هذا ما تركز عليه منظمات المجتمع المدني بشكل عملي، حيث تعمل على تدريب اللجان وتعزيز التطبيق الدقيق للقواعد، إضافة إلى رفع مستوى الوعي السياسي بين المواطنين.
النقاط الإيجابية لإشراك المجتمع المدني في العملية الانتخابية عديدة، باعتبارها حراكاً ديمقراطياً يفعّل المشهد السياسي في سوريا بكل وعي ومسؤولية وفق مسارات مطلوبة للرقابة المجتمعية، تطبيقاً لمبدأ الشفافية بما يحد من أي تجاوزات محتملة للتعليمات التنفيذية المنبثقة عن المرسوم الرئاسي 143، لتحقيق هدف سياسي وطني أعلى يتجلى في العدالة والمساواة في التمثيل. البرنامج التدريبي الخاص باللجان الفرعية، يتم تنفيذه على مدى ثلاثة أيام في مختلف المحافظات، لضمان وصول التدريب إلى جميع المناطق بشكل فعّال ومباشر، ليحقق تجانساً في مستوى الأداء بين مختلف اللجان، الأمر الذي يعكس التنظيم الدقيق والرغبة الواضحة لدى اللجنة العليا للانتخابات في ضمان أن العملية الانتخابية تسير على أسس سليمة، بعيداً عن العشوائية.
إن بناء وعي سياسي بمستوى عال وثقافة وطنية متطورة، هي مسؤولية الجميع خاصة في ظل التحديات والتطورات التي تمر بها سوريا، لذلك فإن دور منظمات المجتمع المدني كشريك أساسي يدعم هذا التوجه، وهو بحد ذاته تقدم نوعي من حيث الفكر السياسي والتطبيق العملي، بما يضمن استمرار العملية بسلاسة ويمنع وقوع النزاعات التي قد تعيق سيرها.
التجربة الحديثة للانتخابات القادمة في سوريا تمثل نقطة تحول تاريخية، وتعبيراً صريحاً عن انطلاقة جديدة تحمل بين طياتها آمالاً حقيقية بانتقال البلاد من مرحلة إلى مرحلة أكثر نضجاً وشفافية، حيث إن إعطاء المجتمع المدني هذا الحيز وإشراكه بفاعلية في استحقاق وطني مفصلي يضع سوريا على طريق بناء مؤسسات تشريعية حقيقية تمثل طموحات الشعب، بما ينتج أجيالاً جديدة من الناخبين تحمل وعياً متقدماً لفهم أعمق لدورهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لذلك فإن هذه الخطوة ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل تغيير جوهري يعكس إرادة الدولة ووعيها بأهمية هذه المشاركة الشعبية الحقيقية، كخطوة أساسية ونوعية على طريق تعزيز الديمقراطية في سوريا التي طالما عانت من الاحتكار السياسي.