الثورة – ثورة زينية:
في أروقة دوائر الأحوال المدنية في قلب العاصمة دمشق ما زال المواطن السوري يتنقل بين طوابير لا تنتهي، ويرهق نفسه في جمع الأوراق، وخوض معارك مع موظفين أحياناً لا يعيرون اهتماماً سوى للورقة والختم، هذا الواقع يعكس تراكم عقود من الإهمال والبيروقراطية التي أفقدت المواطن ثقته بنظام الدولة أيام النظام البائد، ليظهر وعد جديد تحمله الدولة الجديدة.. التحول الرقمي الكامل للخدمات المدنية بحلول نيسان 2026.
بين الخطاب الرسمي والتحديات الصامتة
وعد أعلنه وزير الداخلية اللواء أنس خطاب.. جميع المعاملات في الشؤون المدنية ستكون رقمية في نيسان 2026، ومراكز الخدمة ستغطي جميع المحافظات.
تصريح رآه البعض بداية تصالح بين الدولة والمواطن وخطوة طال انتظارها للخروج من مستنقع البيروقراطية المتكلسة، لكن في بلد لا تزال الكهرباء فيه تنقطع لساعات طويلة، والإنترنت متقطع، والموظف يَحكم بختمه أكثر مما يحكم القانون، فهل يمكن أن يتحول هذا الإعلان إلى واقع؟.
التحول الرقمي لا يعني فقط أجهزة كمبيوتر جديدة في الدوائر الحكومية، بل هو تغيير جذري في بنية الدولة نفسها بهذه الرؤية يعلّق خبير التحول الرقمي الدكتور مناف اللو، قائلاً: نحن لا نتحدث عن مشروع تقني بل عن اختبار وطني لمدى قدرة الدولة على إعادة هيكلة إدارتها ومواجهة التحديات التي راكمتها سنوات الحرب من دمار البنى التحتية إلى تضخم الأرشيف الورقي وغياب القوانين الناظمة، موضحاً أن أحد أبرز هذه التحديات يتمثل في غياب قانون لحماية البيانات الشخصية وهو ما يجعل أي مشروع رقمي عرضة للثغرات والانتهاكات، ويضع المواطن أمام مخاوف حقيقية تتعلق بخصوصيته وأمن معلوماته، إلى جانب ذلك، تشير التقارير المحلية إلى أن أقل من 55 بالمائة من السكان يستخدمون الإنترنت بانتظام، مع فجوة واسعة بين المدن والمناطق الريفية حيث يفتقر للكهرباء المستقرة والخدمات الأساسية مما يضعف من قدرة المواطنين على التفاعل مع أي نظام رقمي متطور.
الشباب.. فرصة ذهبية
ويؤكد الخبير الرقمي أن فئة الشباب تبرز كعامل حاسم فهي جيل يمتلك المهارات الرقمية بالفطرة، ويطمح للعيش في دولة حديثة تواكب العالم- إذا أحسنت الدولة استثمار هذه الطاقة، من خلال التدريب والتوظيف وتمكين الرياديين، فقد يتحول هؤلاء إلى قوة دافعة حقيقية لإنجاح المشروع.
ولفت إلى أن المواطن لا يخفي أمله بأن التحول الرقمي- إن تحقق- قد ينقذه من المشقة اليومية التي يعيشها على أبواب الدوائر الرسمية، متسائلاً: فما الذي ينتظره المواطن من هذا التحول؟ بالطبع ينتظر خدمة سريعة بلا طوابير، وتقليل الاحتكاك المباشر مع الموظفين، ما يعني تقليص فرص الفساد، إضافة لإمكانية إنجاز المعاملة من المنزل خاصة في المناطق البعيدة أو للمرضى وكبار السن، لكن في المقابل المخاوف حاضرة بقوة كيف سيتعامل كبار السن مع تطبيقات معقدة وهم بالكاد يعرفون تشغيل الهاتف، وما مصير المواطن في القرى المنسية التي لا يصلها الإنترنت؟ وماذا عن الموظف الحكومي الذي اعتاد أن يكون صاحب القرار في أي معاملة هل سيتحول بسهولة إلى موظف يراقبه نظام رقمي شفاف؟.
وختم الدكتور اللو: ليس المطلوب من الدولة أن تصنع معجزة بل أن تصنع ثقة مشروع التحول الرقمي فلا يجب أن يقدم للناس كخدمة فنية بل كخطوة في مسار طويل نحو بناء دولة أكثر عدالة وفعالية، فالتحول الرقمي في سوريا ليس معركة مع الزمن فقط، بل مع الماضي، ومع ثقافة إدارية ترسخت لعقود، منوهاً بأنها فرصة لبناء دولة تليق بمواطنيها دولة تسير بخطا ثابتة نحو الحداثة، من دون أن تترك أحداً خلفها.. فهل تستغل الدولة الجديدة هذه الفرصة؟ أم نعود بعد نيسان 2026 لنسأل السؤال ذاته: هل فعلاً كنا نحلم أكثر مما يجب؟ فالتحول الرقمي في سوريا ليس ترفاً إدارياً ولا خياراً تجميلياً، بل ضرورة وجودية في سياق دولة تبحث عن إعادة تعريف علاقتها بمواطنيها بعد عقود من المركزية والبيروقراطية.
كلمة المحرر..
العام 2026 ليس مجرد موعد تقني، بل اختبار سياسي أخلاقي ومؤسسي، ونجاحه لا يقاس بعدد المعاملات المؤتمتة، بل بقدرة الدولة على إرساء قواعد جديدة للحكم الرشيد من قواعد تضمن الشفافية، وتحمي الحقوق وتجعل من المواطن شريكاً لا متلقياً.
سوريا التي تنجح في بناء مشروع تحول رقمي حقيقي، ليست فقط دولة تدخل العصر الرقمي، بل دولة تبدأ فعلياً رحلة الانتقال إلى منطق الخدمة.
ويبقى السؤال مطروحاً.. لا من باب التشكيك، بل من باب التذكير.. هل تمتلك الدولة الإرادة لا مجرد الخطة؟ وهل يمنح المواطن حقه في أن يكون جزءاً من هذه الرحلة لا مجرد متفرج على شاشتها؟.