الثورة -فؤاد الوادي:
منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت خلف الكواليس حروب التكنولوجيا بين الدول الكبرى في العالم ، لاسيما بين الصين من جهة، وبين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، إلا أن هذه الحروب سرعان ما تطورت اليوم لتصبح أكثر ضراوة وحدة من أي وقت مضى، خاصة مع ولادة ” الذكاء الاصطناعي “الذي أصبح مجالاً وميداناً للمنافسة والسباق، والهيمنة أيضا، لأنه من يتفوق فيه، يهيمن على مجالات وآفاق عديدة تبدأ بالأسواق والاستثمارات والاقتصادات، وقد لا تنتهي عند حدود السياسة والمعرفة.
وبحسب “نيويورك تايمز”، فإن بعض الخبراء يروون أنَّ انتشار الذكاء الاصطناعي على نحو واسع سيغير كلّ شيء، بما في ذلك العلاقات الجيو-سياسية والتجارية بين القوتين، وسيجعل من بناء جسور التعاون أمرا ضرورياً يوماً بعد يوم.
أما صحيفة “إيكونومست”، فقد أكدت في تقرير لها ضمن هذا السياق، أن الصين بدأت تقدم للعالم رؤية لحوكمة الذكاء الاصطناعي قائمة على النتائج ومن دون الالتزام بالقيم التقليدية، في مقابل نهج الولايات المتحدة الأكثر تركيزا على المعايير والأمان.
وجاء التقرير على التناقض مع النهج الأميركي، حيث شبه بعض أعضاء الكونغرس السباق في الذكاء الاصطناعي بالسعي إلى تقسيم الذرة، مضيفا أن نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، وبخ الأوروبيين على لوائحهم التنظيمية المفرطة في الحذر، مؤكداً أن مستقبل الذكاء الاصطناعي “لن يُنتصر بالقلق بشأن السلامة”.
وكشف الصحيفة أن الصين تتمتع بميزة إضافية في منافستها لإدارة ترامب، التي تصر على الهيمنة على الذكاء الاصطناعي وفرض تفضيلاتها الأيديولوجية، مؤكدًا أن تهديد ترامب بفرض رسوم عقابية على الدول التي تحاول تنظيم شركات التكنولوجيا الأمريكية يمثل “هدية سياسية” للصين، وأطلق التقرير على هذه الظاهرة مصطلح “تأثير ترامب”.
وأشارت إلى أن جذور هذا السباق في مجال الحوكمة التكنولوجية تعود إلى عام 1995، خلال العصر الذهبي للعولمة، حين صاغ أستاذ الأعمال في جامعة بيركلي، ديفيد فوجل، مصطلحا أسماه “تأثير كاليفورنيا”.
وجادل فوجل في كتابه الارتقاء بالأسواق أن تنظيم المستهلك والبيئة في اقتصاد عالمي حيث تواجه الشركات منافسة جديدة من منافسين أجانب في الأسواق الغنية لا تخفض معاييرها دائمًا كما قد يتوقع البعض، بل إن القواعد الصارمة في سوق تنافسية قد تشعل سباقا نحو القمة، بما في ذلك في الولايات القضائية المجاورة.
وذكرت أن مثال ذلك هو معايير انبعاثات المحركات الصارمة التي فرضتها ولاية كاليفورنيا، أهم سوق سيارات في الولايات المتحدة، حيث اختارت العديد من الشركات تصنيع جميع سياراتها بما يتوافق مع تلك المعايير بدلاً من تصنيع محركات مختلفة لتناسب ولايات مختلفة.
وأكدت الـ”إيكونومست”،أن التأثير الأوروبي لم يكن أقل أهمية، حيث صاغت الباحثة آنو برادفورد من جامعة كولومبيا عام 2012 ما أسمته “تأثير بروكسل”، في إشارة إلى القوة التي يمارسها الاتحاد الأوروبي عبر قواعده الصارمة على الشركات متعددة الجنسيات. ورغم استياء الشركات من هذه اللوائح أو الغرامات التي تفرضها الجهات الرسمية، أشار التقرير إلى أنها تبنت مراراً معايير الاتحاد الأوروبي في جميع أنحاء العالم.
وقالت :إن الحوكمة العالمية للتجارة لم تعد في عصرها الذهبي، ومع ذلك لا تزال أكبر الاقتصادات، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، تولي اهتماماً كبيراً لوضع معايير عالمية، مؤكدًا أن تشكيل حوكمة الذكاء الاصطناعي في 2025 يعد “أعظم جائزة” في هذا المجال.
وأوضحت أن أي توقع بفوز صيني في هذا السباق كان شبه مستبعد، خصوصاً مع سجل الحزب الشيوعي في تنظيم الإنترنت، حيث حظرت السلطات الصينية روبوت المحادثة الأمريكي التوليدي Chat GPT بسرعة، مشددين على ضرورة تقييم جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي القادرة على تشكيل الرأي العام.
وبين التقرير أن سمعة الصين في الابتكار تعززت في كانون الثاني / يناير مع إطلاق (ديبسيك آر -1) ، وهو نموذج متقدم متعدد اللغات أنتج بقدرة حاسوبية ودعم مالي ضئيل مقارنة بالمنافسين الأميركيين، مؤكداً أن هذه الخطوة أثارت تساؤلات حول استراتيجية الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها من خلال حرمان الصين من الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة.
وأشارت إلى أن النجاح التقني واجه عقبات سياسية، حيث حظرت إيطاليا (ديبسيك) بسبب مخاوف تتعلق بخصوصية البيانات، ومنعت تايوان استخدامه في الأنظمة الحكومية لأسباب أمنية.
وأفادت أن المستثمرين والمسؤولين الصينيين يظلون متفائلين، مشيرين إلى أن الدولة تسخر مواردها لإنتاج تطبيقات منخفضة التكلفة وسهلة الوصول، وتعمل على استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، معتبراً أن الاكتفاء بالمركز الثاني بعد أميركا رهان تجاري ذكي وذو صدى محتمل عالمياً.
من هنا فإن الحديث عن تعاون ضروري بين واشنطن وبكين في مجال الذكاء الاصطناعي، يبدو أمرا ضروريا في هذا التوقيت تحديدا، خصوصا وأن المنظومة التقنية قد وصلت إلى ما يسميه العلماء بـ “غليان البخار” الكامل للذكاء الاصطناعي، أي التحول الطوري الكامل نحو تشبع كل شيء بالذكاء، وعندها قد نشهد أهم تحول تطوري في تاريخ البشرية، وبفرص هائلة، لكن أيضا بمخاطر كارثية إذا غابت الحوكمة والتعاون الدولي بين القوى العظمى والمؤثرة.