الثورة – علا محمد:
لم يتصور السوريون يوماً أن يتحول طبق “المكدوس”، “ملك المؤونة” في الخريف، إلى حلم بعيد المنال.. ذلك الطبق الذي ارتبط بذاكرة البيوت، ورائحة الباذنجان المسلوق الممزوج بالجوز والثوم والفليفلة الحمراء، أصبح اليوم أقرب إلى رفاهية غير متاحة لمعظم السوريين.
معاناة الأهالي
من خلال رصد صحيفة الثورة لشهادات الأهالي، تتجلى المعاناة اليومية بلغة صريحة تحمل شيئاً من الدعابة المرة، إذ أشارت رولا محرز “أم محمود”، التي اعتادت أن تملأ “أربعين كيلو مكدوس” في الخريف، إلى أنها بالكاد تضع خمسة كيلوغرامات في جرة صغيرة، وتوزع الحبات بالعد كأنها حبات ذهب.
ولفت الموظف ياسر الزعبي إلى أنه يحاول التخفيف من وقع الغلاء بالاستعاضة عن الجوز بالفستق، وإن ارتفع سعر الفستق، فلا حل إلا بالدعاء!.
فيما روت نور، الطالبة الجامعية، أن المكدوس أصبح طبقاً خاصاً على مائدة يوم الجمعة فقط، فيما كان في الماضي طعام الفقراء اليومي، ليأتي أبو سامر سائق التكسي، الذي أحب المشاركة وقال مازحاً بمرارة: “عملت حساباتي لقيت إذا بدي أعمل مؤونة مكدوس لازم أبيع السيارة.. قلت خليني آكل خبز وزيتون أهون”.
وبحسب حديث عائلة عبد الله محمد، فقد أكدوا أن جميع أفراد العائلة يساهمون في تأمين مؤونة المكدوس، باعتباره عنصراً أساسياً في غذائهم خلال الشتاء، وأوضحوا أن توزيع التكلفة بين الجميع يتيح شراء كميات كافية من المكونات الأساسية، من الباذنجان والجوز إلى الزيت، مع الحفاظ على جودة المؤونة، وبتقديرهم، هذا التعاون لا يخفف فقط العبء المالي عن أي فرد بمفرده، بل يضمن استمرار عادة المؤونة التقليدية رغم غلاء الأسعار وارتفاع التكاليف.
“المكدوس” مرآة أزمة المؤونة
أمين سر جمعية حماية المستهلك والخبير الاقتصادي المهندس عبد الرزاق حبزه بين لـ “الثورة” أن المؤونة بشكل عام، وخاصة المكدوس، تحولت إلى أحد أبرز هموم المواطنين، موضحاً أن أسعار الباذنجان ارتفعت فجأة بعد أن كانت في متناول الجميع، وأضاف: إن المكونات الأساسية للمكدوس شهدت بدورها زيادات حادة، إذ كان سعر الجوز يتراوح بين 55 و60 ألف ليرة، لكنه اليوم لامس 70-80 ألفاً، خصوصاً بعد منع استيراد الجوز ومعظم الخضار والفواكه.
وأشار حبزة إلى أن الزيت يعد عنصراً أساسياً، فالمكدوس يحتاج إلى 5- 6 كيلوغرامات، والكيلو الواحد يباع حالياً بنحو 45- 50 ألف ليرة، فيما ارتفع سعر الثوم أيضاً، في حين وصلت جرة الغاز إلى 130 ألف ليرة بعد أن كانت مدعومة.
أرقام تفضح واقع المؤونة
وأوضح الخبير أن تكلفة عشرة كيلوغرامات من الباذنجان بسعر 7- 8 آلاف ليرة للكيلو تعادل 70- 80 ألف ليرة، يضاف إليها كيلوغرام جوز بقيمة 70- 80 ألفاً، وستة كيلوغرامات من الزيت بنحو 300 ألف، فضلاً عن الثوم والغاز وبقية المستلزمات، ليبلغ المجموع نحو 800- 900 ألف ليرة لعشرة كيلوغرامات فقط، ولفت إلى أن الأسرة التي ترغب بتأمين مؤونة متكاملة من المكدوس والبامية والملوخية والزيتون والجبنة والزيت وغيرها، تحتاج إلى ما لا يقل عن 6-7 ملايين ليرة، حتى مع تخفيض الكميات.
تغيّر ثقافة
وأشار حبزة إلى أن ثقافة المؤونة تغيّرت كثيراً، فالأسرة التي كانت تخزن 30- 40 كيلو غرام مكدوس باتت تكتفي بـ5 أو 10 كيلو غرامات فقط، فيما يستعيض البعض عن الجوز بالفستق لتخفيف التكلفة، وحتى نوعية الباذنجان لم تعد كما كانت، إذ تلجأ بعض الأسر لشراء أصناف أقل جودة، وبيّن أن ما يقارب 70-80 بالمئة من العائلات تواجه صعوبات كبيرة في تأمين المؤونة، فيما اضطر كثيرون لاختصار بعض المواد أو إلغائها نهائياً.
وأضاف أن انخفاض الجودة يعني خفض التكلفة، لكن الحصول على جودة جيدة يتطلب بالضرورة تقليل الكميات، وهنا ضرب مثالاً قائلاً: “شم ولا تدوق”، فالأسرة اليوم قد تضع المكدوس على المائدة صباحاً، لكن بكميات قليلة، ربما ست حبات فقط للعائلة كلها.
كيف تكيف السوريون مع الغلاء؟
كشف حبزة أن الأسعار بعد التحرير شهدت انخفاضاً نسبياً محدوداً نتيجة الانفتاح وتوفر المواد، لكنها لم تتجاوز 25-30 بالمئة.
وأضاف أن هذا الانخفاض لم يُغير بشكل جذري من قدرة الأسر على تأمين المؤونة، ما دفع معظم السوريين إلى إعادة ترتيب أولوياتهم الاستهلاكية، وتعديل الكميات والنوعية التي يشترونها، موضحاً أن الأسر تأقلمت مع الواقع الراهن من حيث الكمية والنوعية وثقافة الاستهلاك، بينما الواقع الاقتصادي لم يتأقلم معهم، ما يعكس فجوة كبيرة بين القدرة الشرائية والتكاليف الفعلية للمؤونة، وأكد أن هذه المقارنة التاريخية تُظهر بوضوح أن الأزمة ليست مؤقتة، بل هي نتيجة تراكمية للسياسات الاقتصادية والقيود على الاستيراد. وتساءل الخبير الاقتصادي عبد الرزاق حبزة عن قدرة الجهات الحكومية على التدخل المباشر؟ مبيناً أن الحكومة تعمل في الوقت الراهن على ملفات ضاغطة تتعلق بالأمن والنقل والخدمات الأساسية، ما يجعل من الصعب أن تكون قادرة على معالجة جميع الملفات الاقتصادية في آن واحد، وأكد أن هذه القضايا تحتاج إلى وقت وإمكانيات كبيرة، إلا أن هناك خطوات موازية يجري العمل عليها، من أبرزها السعي إلى زيادة دخول العاملين في الدولة بشكل تدريجي، في محاولة للتخفيف من حدة الغلاء وتحسين القدرة الشرائية للأسر، بينما يعتمد معظم المواطنين على أساليب متنوعة للتدبر، منوهاً إلى أن أصحاب المهن رفعوا أسعار خدماتهم بشكل كبير، الأمر الذي جعل المستهلك يتحمل النتيجة كاملة.
بين أرقام الخبير التي تكشف عمق الأزمة، وأصوات الناس التي تلخص الوجع بمرارة ممزوجة بالفكاهة، يتضح أن المكدوس لم يعد مجرد طعام، بل غدا عنواناً للأوضاع المعيشية ومرآة لأزمة المؤونة السورية.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه على الموائد: هل سيظل المكدوس حاضراً ولو بكميات قليلة، أم أن السوريين سيكتفون فعلاً بـ “شم ولا تدوق”؟.
أبو راشد صلاح الفهد من بلدة كويا بدرعا يتحسر على حاله مع مؤونة المكدوس ..فقال كل عام نعمل طن مكدوس لي ولأسرتي المؤلفة من ١٥ فرداً هذا العام بسبب الغلاء انخفضت الكميات إلى ٤٠٠ كيلو.