الثورة – وعد ديب:
على الرغم من أنها باتت مشقّة للكثير من العائلات، لما يرافقها من أعباء مادية وجسدية، إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها، ولو بحدودها الدنيا.
فـ”المؤونة” لا يمكن الحديث عنها إلا كاستذكار لثقافة موروثة، لها أهداف اقتصادية وغذائية تتعلق بالأسرة، وتحمل في طياتها أسراراً واسعة، حيث يبدأ العمل على تصنيعها منذ بداية الصيف، وينتهي مع موسم قطاف الزيتون في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني.
ولكن… هل ما زالت “المؤونة” تحتفظ بثقافتها الموروثة وأهميتها الاقتصادية لدى الأسر السورية؟.
تقول الدكتورة سلوى شعبان، المتخصصة في القضايا التنموية والاقتصادية، في تصريح لصحيفة الثورة: “من خلال دراسة تفصيلية ونظرة على واقع حياة الأسرة السورية، وباستعراض بسيط لتاريخ هذه الأسرة التي تمثّل نموذجاً فعّالاً لمجتمع اقتصادي مصغّر يعيش الاكتفاء الذاتي ويسعى للتماشي مع المواسم الزراعية المتنوعة، المشهود لها بطقوس المؤونة المرتبطة بتقاليدنا وأعيادنا الشعبية التي تحمل مدلولات وأسماء نضوج الثمار وقطاف المحاصيل وسلال الخير من ترابنا الغني… فإن الأسرة، برأيي، كانت وما زالت متمسكة بهذه الطقوس لما تحمله من بركة وخير، ولما توفره من مواد الطبخ التي كثيراً ما تضع ربّة المنزل في حيرة دائمة”.
تغير وتقلّص
وتتابع: كما كانت الجدات والأمهات قدوة في إعداد المؤونة، ما زالت بعض السيدات- رغم التطور والحداثة ووسائل التبريد والحفظ- يحتفظن بهذه العادات، حرصاً على بركة البيت وصحة أفراد العائلة، وعلى تناول مأكولات حُفِظت تجفيفاً تحت أشعة الشمس.
لكن، والكلام للدكتورة شعبان، ومع تضاعف ضغوط الحياة، والضعف الاقتصادي الذي نعانيه، والغلاء الفاحش الذي جعل الأسعار كارثية وغير متماشية مع إيرادات الأسرة الشهرية، تقلّصت الكميات التي كانت تُخزَّن سابقاً، بسبب عدم القدرة على توفير مستلزمات المؤونة كافة، إضافة إلى الانقطاع المستمر للكهرباء، الضروري لتشغيل الثلاجات والمبرّدات.
“وتشير الدكتورة شعبان إلى أن الواقع، بتحدياته المختلفة، وهذا التسارع العالمي في نمط الحياة، أثّر بشكل بالغ على تدابير الأسرة وعاداتها الموسمية، وألغى- نوعاً ما- هذا الموروث الجميل الذي كنا نتغنّى به، والذي ارتبط بأسماء وتقاليد وأدوار عائلية محددة كانت تُنقل من جيل إلى جيل، وكانت تشكّل مناسبة اجتماعية بامتياز، مليئة بالحركة والضجة واللّمة العائلية.
تقليد سنوي مستمر
وتبين أنه ما زالت نسبة لا بأس بها من الأسر، خصوصاً في القرى والأرياف، مثابرة على هذا التقليد السنوي، بسبب توافر المواد الغذائية بأسعار أقل من الأسواق، إضافة إلى وجود تبادل بين الأسر للمواد التي تُنتج في أراضيهم ومزارعهم، كإنتاج القمح والبصل والفواكه والخضروات وغيرها.
وتقول: نحن مواظبون على التمسك بأعرافنا وتقاليدنا الطيبة، ليبقى الخير عنواناً لحياتنا، وبركةً في وجودنا، ونحثّ كل من يملك قطعة أرض- مهما كانت مساحتها- حتى لو كانت ضمن أصيص على شرفة منزله، على استغلالها خير استغلال، درءاً للحاجة وتفادياً للفقر والشكوى والعوز.
فالمؤونة لا غنى عنها لأسرنا، وتصنيعها في ظل الغلاء أفضل من الشراء المباشر، وتناول سلع أجنبية بعيدة عن خيرنا وطقوسنا، ومن باب الفائدة الصحية والطاقية، دائماً يُقال: (كُلْ من أرضك وتراب بلدك الذي جُبِلتَ منه).
وتختم حديثها بأن المؤونة مشروع اقتصادي وتدبير تنموي فعّال، لجعل الحياة أكثر سهولة ويُسراً، وتماشياً مع الأحوال والمتغيرات.
حالة اجتماعية وثقافية
وفي السياق ذاته، لا يمكن فصل مشروع توضيب المؤونة عن البعد الاجتماعي والثقافي الذي تمثله، إذ ارتبط هذا التقليد بطقوس جماعية، كانت تجمع أفراد الأسرة والجيران في مشهد يفيض بالتعاون والتكافل، ويتحول فيه العمل إلى مناسبة للاحتفال، وتبادل الخبرات والوصفات، وحتى الأحاديث والضحكات.
تقول سلمى نبيل، وهي سيدة خمسينية من ريف دمشق: إن المؤونة ليست مجرد طعام يُخزن، بل هي ذاكرة بيت، ودفء شتاء، وحنين لأمهات وجَدّات رحلن لكن بقي أثرهن في تفاصيل العلب والمرطبانات، وتضيف: “كل مرطبان مكدوس، أو مربى، أو مخلل، يحكي قصة موسم وجهد وتعب، لكنه يحمل في النهاية طعماً لا يمكن للمنتجات الجاهزة أن تضاهيه”.مع اشتداد الأزمات الاقتصادية وارتفاع الأسعار، بدأت الكثير من الأسر، خاصة في المدن، تعود تدريجياً إلى ثقافة التصنيع المنزلي، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضاً لضمان جودة الغذاء وصحته، ففي ظل كثرة المواد الحافظة والإضافات الصناعية في الأطعمة الجاهزة، باتت المؤونة وسيلة لحفظ الغذاء بشكل طبيعي وآمن.
وهنا تؤكد الخبيرة الاقتصادية سلوى شعبان أن الاستثمار في ثقافة المؤونة لا يحتاج إلى رأس مال كبير، بل إلى وعي وتخطيط وتنظيم، مشيرة إلى أهمية دعم هذه الثقافة عبر مبادرات ومشاريع تنموية صغيرة، تُعزز من دور النساء في الاقتصاد المحلي، وتخلق فرص عمل حقيقية داخل المنازل.
الاكتفاء الذاتي
بات من الضروري، وفق المختصين، إعادة إحياء ثقافة الاكتفاء الذاتي، ليس فقط لمواجهة التحديات الاقتصادية، بل أيضاً لتعزيز الصمود المجتمعي، وتثبيت الناس في أراضيهم وقراهم، وتقوية الروابط الاجتماعية التي يُسهم تقليد المؤونة في تعزيزها.ففي النهاية، المؤونة ليست رفاهية، بل حاجة.. وهي ليست مجرد تخزين مؤقت، بل استثمار في المواسم والخيرات، وفي العائلة والمجتمع أيضاً.