الثورة – زهور رمضان:
في يومٍ يفيض بالوحدة والتعاون، شهدت الأراضي السورية في حماة، والساحل السوري تجسيداً حقيقياً لمعنى التكاتف والمحبة بين جميع أبناء المنطقة والمناطق المجاورة.. ففي جبال قرية دير شميل اجتمعت مكونات المجتمع السوري من كل الأطياف والألوان مع أبناء القرية والقرى المجاورة والمحيطة بها ومن جميع المحافظات السورية متجاوزين كل الفروقات، ليتعاونوا في إخماد الحرائق التي تهدد بلادنا.
تمكنت فرق الإطفاء في الدفاع المدني السوري وعناصر إطفاء الحراج وبمساعدة كبيرة من الأهالي والمتطوعين من وقف امتداد النيران والسيطرة عليها في أحراج قريتي دير شميل والكنائس في ريف حماة الغربي، يوم الاثنين 25 آب، بعد عمل متواصل استمر لعدة أيام وعدة محاولات.
صعوبة في الإطفاء
واجهت الفرق صعوبات بالغة نتيجة وعورة التضاريس واشتداد سرعة الرياح التي ساهمت في توسع رقعة النيران، فيما قامت الفرق بتنفيذ عمليات التبريد والعزل لضمان عدم تجدد الحريق وضمان سلامة المنطقة.
ومع اشتداد اشتعال النيران وقوتها بسبب شدة الرياح واقترابها من المنازل السكنية وحدوث هلع وخوف من قبل بعض الأهالي وخوفهم من عدم التمكن من إيقاف النار المستعرة في دير شميل والخوف من امتدادها للقرى المجاورة من اللقبة، ودير ماما، والسلوكية، والزاوي، والقريات، انطلقت نداءات الاستغاثة من الأهالي على صفحات التواصل الاجتماعي وباستخدام مكبرات الصوت أو عبر الاتصالات الخليوية مناشدة شباب مصياف والبلدات وكل من يستطيع المساعدة للتطوع والمساهمة في إخماد الحريق والسيطرة عليها قبل وصولها لحقول المواطنين وأشجارهم وإحراق منازلهم والقضاء على الأخضر واليابس في كل مكان خاصة وأن عناصر الدفاع المدني لا يستطيعون السيطرة عليها بمفردهم.
نخوة شبابية
سارع شباب دير شميل حاملين “رفوشهم” ومضخات المياه وبعض الأدوات البسيطة لإطفاء النيران، وذكر ابراهيم الخطيب من شباب دير شميل تطوع العديد من شباب القرية لإخماد النيران بكل عزيمة وإصرار حاملين “الكريك” بيد وجرار المياه باليد الأخرى تاركين همومهم وأحزانهم خلف ظهورهم.
أما كاترين. س، فقد تفاجأت بمشهد شباب القرية وهم مندفعون ضمن طرق الأحراج حاملين معهم عزيمة قوية مسارعين لمواجهة النيران في لوحة ومشهد قد لا يتكرر وربما لا تنساه ما عاشت نظراً لمدى تأثيره في النفس.
فيما ذكر المزارع نادر من قرية السلوكية المجاورة لقرية دير شميل من جهة الشرق أن شباب القرية كانوا يراقبون النيران عن بعد وقلوبهم تحترق مع كل غصن زيتون يشتعل وأفئدتهم تتقطع مع كل شجرة غاز تشتعل، فبادروا للمشاركة بإطفاء الحريق حاملين أغصان السنديان والزيتون وحاملين معهم المعاول والرفوش، مسرعين تراهم يحملون سطل ماء بينما يحمل آخرون جهاز رش للمبيدات بعد تعبئته بالمياه، ومنهم من قطع أغصاناً من السنديان ليطفئ فيها النيران.
ورغم وعورة الجبال، وصعوبة الوصول إليها وشدة الرياح والدخان الكثيف، ورغم الفقر المدقع فقد بادر شباب نهر البار، وسلحب، والغاب، للمساعدة في إطفاء النيران.
كما روى عيسى حيدر الشاب المتطوع من نهر البارد أن شباب ورجال نهر البارد وصلوا إلى موقع الحرائق في “دير شميل” ولبوا نداء الواجب والإنسانية للمساهمة في إطفاء الحرائق التي تم إخمادها ثلاث مرات سابقاً ليتفاجؤوا باشتعالها مجدداً في اليوم التالي.
يقول محمد سعود من قرية اللقبة: “شايفين هذه النار”، لقد كان ارتفاعها أكثر من عشرة أمتار، ومنظرها مهيب ومرعب، وأضاف: إن هذه النار التي قاتلناها ست ساعات متواصلة حتى انطفأت، فكلما كانت تشتد، نتراجع للخلف ونعود عندما تضعف واستمر الشباب على هذه الحال فوق الخمسين كرة ومرة ولم ينسحبوا.. حتى تمكنوا من إخمادها.
ولفت بحديثه قائلاً: إن أكثر موقف شجعنا عندما قدمت نساء الضيعة بكل همة ومسؤولية عندما كنا نستريح، ما جعلنا نهب من جديد ونتحول إلى جبل بوجه النار.. مبيناً أن سيارات الإطفاء لا يمكنها الوصول إلى موقع الحريق هنا لكن محبتنا لأرضنا وتعلقنا بها جعلنا نحب بعضنا ونكون يداً واحدة.
ويقول أحمد صارم من قرية دير ماما: إن ألسنة اللهب العالية كانت المانع لأنها تحرق كل من يحاول الاقتراب منها، فيجب أن تكون بعيداً عن ألسنة النار عشرة أمتار على الأقل كمسافة أمان.
أما كيف أطفأناها فقصة ثانية، ترويها أغصان السنديان والسواعد التي تضرب بالرفش والمعاول وتابع أن هناك شباباً ذابت أحذيتهم، ومع ذلك قرر أبناء الأرض ألا ينسحبوا.
وتم إطفاؤها رغم كل الفقر الذي يعيشونه.
أما عيسى وقاف من أبناء مصياف، فيقول: إن أبناء سوريا تقاسموا الأدوار والمهام بكل مسؤولية وإخلاص بين إطفاء النيران وبين تجهيز الطعام وتأمين مياه الشرب للمتطوعين، فظهرت لوحة فسيفساء سوريا بأبهى صورة إنسانية، لتنسينا ولو قليلاً مرارة الحرائق والكوارث.
مشاركة نسائية
لعل أجمل ما يمثل تلاحم الشعب هو مشاركة المرأة في مصاعب الحياة جنباً إلى جنب مع زوجها وأهلها بل يتعداه إلى دورها في المهمات الصعبة التي تفوق طاقتها في كثير من الأحيان كمشاركتهن في إخماد الحرائق، فهاهن سيدات الجبل من دير شميل ونهر البارد يقدمن كل ما يستطعن في هذا الوقت المتأخر من الليل لرجال الجبل وهاهن سيدات الغاب يُجهزن وجبة العشاء للرجال المشاركين في عمليات إخماد الحرائق.. أما الأستاذ سليمان ناعم الذي لم يتمكن من المساهمة في إطفاء الحريق نظراً لمرضه بيد أنه تابع مجريات الإطفاء على وسائل التواصل الاجتماعي، يقول: إن مشهد الشباب وهم يطفئون النار ما هو إلا نقوش أسطورية على جدار الذاكرة، تُروى كحكاية شجاعة لا تُنسى.
وأضاف: إن صورهم تشبه تماماً أيقونات محفورة في التاريخ كرمز للصمود كشاهد حي على أن الإنسان واجه لهيب الموت بيديه العاريتين.
نسيج متنوع
ولأن الانتماء والإنسانية جزء لا يتجزأ في وطن جميل كسوريا، وبعد تعرض غابات وبساتين قرية دير شميل للحرائق امتدت يد العون والمساعدة في إطفاء الحريق من بلدات وقرى الجوار، ويؤكد مختار دير شميل مختار إدريس، أن أهالي القرى المجاورة الذين شاركوهم مصابهم كما امتدت يد أصحاب الأيادي البيضاء في مدينة حماة، والسقيلبيةـ فأبوا إلا أن تمتد أياديهم الخيرة للمساعدة وتقديم مواد عينية إلى الفقراء المتضررين والمحتاجين من أهالي القرية، مجسدين اللحمة الوطنية، كما الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، معبرين عن التكاتف والتلاحم بين جميع أبناء الوطن مثبتين معاني المحبة والإخاء.
إن هذا المشهد يعكس روح سوريا الأصيلة، إذ يكافح الجميع معاً من أجل حماية أرضهم وجبالهم، إن هذه اللحظات تؤكد أن الوطن يجمعنا، وأن حبنا لسوريا يتجاوز كل الانتماءات.. نحن جميعاً سوريون، وكلنا فخر أن نكون جزءاً من هذا النسيج المتنوع.
لنستمر في دعم بعضنا البعض، ولنحافظ على هذه الأرض التي نعتز بها.. شكراً لكل سوري شريف ساهم في إطفاء النيران، وعلينا أن نتذكر دائماً أن قوتنا تكمن في وحدتنا.