الثورة – غصون سليمان:
تحت خبابا جمر النار الملتهبة التي تطاولت على هيبة وعذرية غاباتنا، وجبالنا، وهضابنا، وسهولنا السورية، في أكثر من مكان ومنطقة على مدى شهرين ويزيد، كان المواطنون والعائلات يقارعون هول الحدث وما زالوا، بتكافل اجتماعي قل نظيره، وبروح معنوية تفوقت على ذاتها، وإرادة سطرت في بيان العزيمة أن الأرض هي العرض، وهي الستر والغطاء، تنقذك من الجوع وقت الضيق وتحميك من الفقر حين العوز، وتحصنك كملجأ آمن من غدرات الزمن. بالأمس القريب رأينا كيف عاد دخان الحرائق ليتمدد في ريف حماة الغربي من جديد، بين جبال وهضاب ريف مدينة مصياف، ووادي العيون، ودير شميل، وساقية نجم وقرية “حيالين – طريق القدموس”، وضهر الزينة وغيرها من القرى والبلدات المتاخمة للسفوح الغربية لحدود المحافظة جغرافياً.
سرعة الاستجابة
اللافت هو سرعة الاستجابة لنداءات الاستغاثة التي أطلقها الشباب من مختلف الأعمار ومن القرى والأحياء المجاورة ليكونوا الذراع الأول للدفاع المدني في إطفاء مساحات الحرائق بما تيسر لهم من أدوات وإمكانات متواضعة. فمن كان يمتلك سيارة عامة أو خاصة، سرفيساً أو شاحنة، أو حتى موتوراً، أو دراجة هوائية، جميعها وضعت بالخدمة، كان الجميع في سباق نحو قبلتهم وهي إطفاء لهيب الحرائق قبل أن يتمدد ويداهم المنازل القريبة، وتجري الرياح بما لا تشتهي قوانين الطبيعة. وفي هذا السياق لعل معظمنا يتذكر ذاك اليافع الصغير حين أخذ يوزع الماء على الشباب المتطوع في جبال دير شميل بريف حماة منتصف الشهر الفائت، رغم الألم الكبير بسبب خسارة ملايين الشجرات المعمرة، وعدد من الأرواح الطاهرة التي تطوعت لإخماد الحرائق، إلا أنه كان هناك ثمة مواقف إنسانية سورية نبيلة. قام الفتى اليافع محمد علي من قرية دير شميل ابن الثانية عشرة ليسجل في ذاكرة المكان والزمان كيف تطوع ليسقي الشباب والرجال الذين ساعدوا في إطفاء الحرائق، ويقطع سيراً على الأقدام مسافة 2 كيلومتر وهو يحمل “بيدون” ماء على كتفه ليصل إلى موقع الحريق.. غير آبه لثيابه غير الواقية في هكذا ظروف، لكنه بفعله هذا جسد شموخ تلك الجبال، إذ خرج حاملاً عبوات الماء التي شدت على بطنه الصغير، ليغدو أيقونة في العطاء والمروءة، محرضاً ما في الوجد من ضمير، حاملاً براءة الطفولة كشهادة فخرية في وجه لهب لا يعرف الرحمة، لكنه عرف كيف يروي ظمأ النفوس بزيادة عدد عبوات المياه وكيف شدها وربطها على خصره وبطنه.
خطوة لافتة
وفي خطوة لافتة قام الفنان أحمد الصوفي بتخليد هذه اللحظة برسم متقن ليحفظها من عبث عقارب الساعات، ولتظل واقفة في مكانها لحظة عميقة ينحني أمامها الزمان احتراماً لبراءة تفيض عطاءًا. خرج غير خائف من النار ليعلمنا أن القلوب النقية لا يوقفها خوف، ولا يثنيها وجع، لأنهم أبناء هذه الأرض، لعل هذه الصورة تعبر عن مشهد من صراع الإنسان الأزلي مع الفناء، غداً ستُقرأ كأساطير محفورة في الذاكرة، حيث اليد التي تطفئ النار تُشعل معنى الخلود.