من قاعات الدراسة إلى خطوط الإنتاج.. تجربة تعيد تعريف التعليم المهني

الثورة – لينا شلهوب:

في زمن تتقاطع فيه الحاجة إلى التعلم مع متطلبات التنمية، اختارت وزارة التربية أن تجعل من التعليم المهني جسراً بين المدرسة وسوق العمل، وبين المعرفة والإنتاج، فمن ورش النجارة والحدادة في المدارس الصناعية، انطلقت مبادرة وطنية طموحة لتصنيع المقاعد المدرسية بأيدي الطلاب والمعلمين، إنها خطوة تحمل في مضمونها رؤية جديدة للتعليم، ترى في المدرسة مصنعاً للأمل، وفي الطالب شريكاً في بناء بيئته ومجتمعه.

حيث أطلقت الوزارة مؤخراً مشروعاً وطنياً متكاملاً يهدف إلى تحويل التعليم المهني إلى رافد إنتاجي حقيقي، من خلال تصنيع المقاعد المدرسية داخل المدارس والمعاهد المهنية في مختلف المحافظات، وذلك في خطوة تحمل أبعاداً تربوية واقتصادية وتنموية في آن واحد.

مديرة التعليم المهني سوسن حرستاني بينت لصحيفة “الثورة” أن هذا المشروع، الذي بات ينظر إليه اليوم بوصفه نموذجاً عملياً لربط التعليم بالإنتاج، يسعى إلى تأمين احتياجات المدارس من التجهيزات الأساسية، وفي الوقت نفسه يسعى لتأهيل طلاب التعليم المهني بمهارات عملية تجعلهم قادرين على دخول سوق العمل بثقة وكفاءة.

يجمع بين التعليم والإنتاج

تقوم فكرة المشروع على مرحلتين مترابطتين – كما تشير حرستاني – الأولى عبر إنتاج المقاعد المدرسية وفقاً للمواصفات المطلوبة، وتسليمها للمدارس المحتاجة، والثانية تدريب طلاب التعليم المهني عملياً ضمن ورش إنتاجية واقعية.

فيما يؤكد القائمون على المشروع أن الهدف ليس فقط سد النقص في تجهيزات المدارس، بل تحويل العملية التعليمية إلى تجربة إنتاجية عملية، بحيث يتخرج الطالب من المدرسة المهنية، وهو يمتلك خبرة حقيقية في التصنيع والإدارة والإنتاج.

كذلك تضيف حرستاني، إن المشروع يسهم في تحسين بيئة التعلم داخل الصفوف، ويخفف الأعباء عن المدارس التي تعاني من نقص في المقاعد والتجهيزات، لافتة إلى أن الوزارة تعمل على تفعيل الورش الإنتاجية في المدارس والمعاهد الصناعية لتأمين احتياجات القطاع التربوي بشكل مستدام، بما يضمن جودة التصنيع والتدريب في آن معاً، وترى أن إشراك الطلاب في هذه العملية يمنحهم روح العمل والانتماء والمسؤولية، ويجعلهم شركاء فعليين في تطوير بيئتهم التعليمية ومجتمعهم

 

إنتاج وتدريب وتعاون مجتمعي

تفاوتت تجارب المحافظات في التطبيق العملي للمشروع، لكنها جميعاً اتفقت على هدف واحد هو تحويل التعليم المهني من نظري إلى تجربة إنتاجية حيّة.

ففي دمشق، نفذت المدارس والمعاهد الصناعية المشروع ضمن ورش مجهزة بالتقنيات الحديثة، وتحت إشراف معلمي الحرف والتدريب العملي، وتم إنتاج أعداد كبيرة من المقاعد وزّعت على المدارس المحتاجة، مبينة أن الطلاب تعاملوا مع هذا العمل بحماس، لأنهم رأوا كيف يتحول جهدهم إلى منتج يخدم مدارسهم وزملاءهم.

وفي حماة، تم إنتاج 25 ألف مقعد مدرسي، حيث تجاوزت التجربة حدود المدرسة لتصبح مشروعاً مجتمعياً متكاملاً، بالتعاون بين المدارس المهنية والمجتمع المحلي، مؤكدة أن هذه التجربة ساهمت في رفع جاهزية المدارس في المناطق التي عادت إليها الأسر مؤخراً، موضحة أن المشروع لم يكتف بتزويد المدارس بالمقاعد، بل ساعد في تدريب المئات من الطلاب على أعمال النجارة والحدادة والتجميع.

أما في حمص، بدأ تنفيذ المشروع قبل نحو خمسة أشهر، ونجح في تأمين المقاعد لعدد من المدارس التي كانت تعاني نقصاً، مضيفة: إن العمل في تصنيع المقاعد تحول إلى منهاج عملي يومي للطلاب، إذ يتعلمون التصميم والقياس والتقطيع والتجميع، وكل ذلك ضمن معايير الجودة المطلوبة، كما أنه منحهم ثقة كبيرة بقدراتهم، وأظهر للمجتمع أهمية التعليم المهني في دعم التنمية.

وتطرقت إلى استدامة العمل وتوسّع الإنتاج، في كل من درعا وريف دمشق، حيث يواصل المعهد الصناعي العمل في درعا بوتيرة متسارعة لتلبية الطلب المتزايد على المقاعد، أما في ريف دمشق، فقد أطلقت الوزارة خطة لإنتاج أكثر من عشرة آلاف مقعد مدرسي ضمن الثانويات الصناعية بالتعاون مع المجتمع المحلي، في محاولة لتحديث التجهيزات المدرسية وتوسيع الطاقة الاستيعابية في المناطق الريفية، كما نوهت بأن التعليم بات في خدمة المجتمع.

وفي إدلب، نفذت المدرسة الصناعية في معرة مصرين مبادرة لتصنيع المقاعد بمشاركة الطلاب والمعلمين، حيث شكل المشروع تجربة فريدة في تعزيز روح المسؤولية والمواطنة لدى الطلاب، مشددة على أن التعليم المهني ليس مجرد تدريب على المهن، بل ثقافة إنتاج تخدم المجتمع.

يرى خبراء تربويون أن مشروع تصنيع المقاعد المدرسية هو أكثر من مجرد حل إسعافي لنقص التجهيزات، بل هو تحول استراتيجي في فلسفة التعليم المهني في سوريا، فالوزارة من خلال هذه الخطوة، تسعى إلى إعادة الاعتبار للتعليم المهني بعد سنوات من هيمنة التعليم الأكاديمي، وجعل المدارس المهنية مراكز إنتاج مصغرة قادرة على تلبية احتياجات المجتمع المحلي.

يقول الباحث التربوي مروان سليم: إن المشروع يشكل مختبراً عملياً لتحويل المناهج النظرية إلى تطبيق واقعي، مشيراً إلى أن الطلاب الذين يعملون في تصنيع المقاعد يكتسبون خبرة لا تقدر بثمن في التخطيط والتنفيذ وضبط الجودة، مشيراً إلى أن هذا المشروع يمكن أن يكون نموذجاً لتوسيع التعليم المنتج ليشمل تصنيع الأبواب والنوافذ واللوحات المعدنية وغيرها من احتياجات المدارس.

من جانب آخر، يرى الاقتصادي حسام الديري أن القيمة الاقتصادية للمشروع لا تكمن فقط في خفض التكاليف عن وزارة التربية والتعليم، بل أيضاً في بناء جيل منتج يمتلك مهارات مهنية مطلوبة في سوق العمل، فضلاً عن أن هذه التجربة تسهم في دعم الاقتصاد المحلي عبر تشغيل الورش وتفعيل دور المدارس المهنية في التنمية.

مشروع وطني مستدام

تؤكد مديرة التعليم المهني في وزارة التربية والتعليم أن المشروع مستمر في جميع المحافظات، وأن آلاف المقاعد تم تسليمها خلال الأشهر الماضية إلى المدارس في مختلف المناطق، كما أن الوزارة ترى أن هذا النجاح يعكس تكاملاً حقيقياً بين التعليم والإنتاج، وأن تحويل المدارس المهنية إلى وحدات إنتاجية مستدامة سيسهم في إعادة تعريف مفهوم التعليم المهني بوصفه مساراً تنموياً لا يقل أهمية عن التعليم الأكاديمي.

وتطرقت إلى أن مشروع تصنيع المقاعد المدرسية هو أول خطوة في مسار طويل نحو جعل التعليم المهني قوة إنتاج وطنية تسهم في بناء الإنسان والاقتصاد معاً، فهو مشروع لا يصنع المقاعد فقط، بل يصنع جيلاً من الشباب القادر على العمل والإبداع والعطاء.

 

 

ما وراء المشروع

آخر الأخبار
19 ألف طن زيت.. توقعات متوسطة لموسم الزيتون في حلب استعادة العقارات المنهوبة.. خطوة نحو العودة الآمنة سيناريو متفائل لمبادرة الاستثمار 2025 إزالة الركام المتبقي لبدء تأهيل المركز الثقافي في الميادين معايير في اختبارات إعداد المدرسين في دمشق الهيئة العامة للمعادن الثمينة.. قاطرة تنظيم القطاع وجذب الاستثمار وصول باخرة تجارية من الصين إلى مرفأ طرطوس  هل السعر الجديد للخبز السياحي مقدّمة لارتفاعات أخرى ؟   طائرة سيدات الروَّاد تفتتح مشوارها العربي بخسارة  المدرب المحترف... شريك التحول الإداري  سوريا تتعافى بالسلام والمحبّة ..من دمشق تبدأ رسالة التآخي والتعايش  فعاليات النسخة التاسعة من مبادرة مستقبل الاستثمار(FII9) تنطلق في الرياض مدرسة ميدعا تفتح أبوابها لاستعادة التعليم في الغوطة الشرقية  المنظفات المحلية .. أسعار عالية وحضور للمستوردة  مشاركة سوريا بمبادرة الاستثمار خطوة لدعم التعافي من قاعات الدراسة إلى خطوط الإنتاج.. تجربة تعيد تعريف التعليم المهني  بعض المصارف السورية تؤكد..لامخاطر جمّة وقرارات المركزي نفذت لضمان الاستقرار مكتب لصندوق النقد في دمشق ودعم مشروعات من البنك الدولي مبادرة مستقبل الاستثمار تؤسس لتعافي شامل انقطاعات كهربائية متكررة في التضامن والقاطنين يطالبون بحل جذري