الثورة – لينا شلهوب:
تعتبر البطاطا واحدة من أهم المحاصيل الغذائية في العالم، إذ تحتل المرتبة الرابعة، بعد القمح، والأرز، والذرة، من حيث الأهمية الغذائية والاستهلاك البشري، وتلعب دوراً محورياً في تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الدخل الزراعي في العديد من الدول، ومنها سوريا التي تعد من البلدان التي تمتلك بيئة مناسبة لزراعة هذا المحصول الاستراتيجي، إلا أن نجاح زراعة البطاطا لا يعتمد فقط على العوامل المناخية والتربة، بل يرتبط بشكل مباشر بجودة البذار المستخدم، ويمثل البذار السليم والخالي من الأمراض العامل الأساسي في تحسين الإنتاجية وتقليل الخسائر.
في هذا السياق، بيّن الخبير والمهندس الزراعي موفق الحمود في لقاء لـ”الثورة”، أن المؤسسة العامة لإكثار البذار أطلقت مشروعها الوطني لإنتاج بذار البطاطا محلياً، في خطوة استراتيجية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتأمين بذار عالي الجودة يتمتع بمواصفات صحية وإنتاجية عالية، ويعد هذا المشروع من أبرز المبادرات الزراعية التي تعكس توجّهاً نحو الاستدامة وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج بذار البطاطا، فضلاً عن دعمه المباشر للمزارعين وتخفيف الأعباء الاقتصادية عنهم.
مبررات المشروع وأهدافه
ولفت إلى أن مشروع إنتاج بذار البطاطا الوطني لم يأتِ من فراغ، بل كان استجابة لحاجة ملحّة فرضتها عدة عوامل، منها الاعتماد على الاستيراد، إذ كانت البلاد تعتمد لفترات طويلة على استيراد بذار البطاطا من الخارج، مما يرهق المزارعين بالتكاليف الباهظة ويجعل الإنتاج عرضة للتذبذب تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية، وكذلك انتشار الأمراض الفيروسية، إذ يشكّل التلوث الفيروسي أحد أبرز التحديات التي تواجه زراعة البطاطا، الذي ينتقل بسهولة عبر الدرنات، ما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وانخفاض الجودة، ومن العوامل أيضاً الحاجة إلى أصناف منتجة وملائمة، يفضل المزارعون أصنافاً محددة تلبي متطلبات السوق المحلية والتصدير، لكن الاعتماد على الأصناف المستوردة لا يتيح لهم دوماً الحصول على ما يناسب ظروفهم البيئية والاقتصادية.
لذا يقول م. الحمود: بناء على ذلك، جاءت أهداف المشروع لتشمل، إنتاج بذار بطاطا محلي عالي الجودة وخالٍ من الأمراض، وإنشاء بنك وراثي يضم معظم الأصناف المرغوبة والمتجددة باستمرار، مع إدخال أصناف جديدة ذات مردودية عالية ومقاومة للأمراض، بالإضافة إلى دعم المزارعين وتخفيض تكاليف الإنتاج، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز الأمن الغذائي.
المراحل التقنية لإنتاج بذار البطاطا
يتحدث الخبير الزراعي عن مجموعة من المراحل منها: العزل المخبري للمرستيم، حيث تبدأ رحلة إنتاج بذار البطاطا في المخابر، ويتم عزل المرستيم القمي من درنات مختارة بعناية وخالية من الإصابات الفيروسية، وتعتبر هذه الخطوة حجر الأساس في المشروع، إذ تضمن الحصول على نباتات سليمة وراثياً وخالية من الملوثات، المرحلة الثانية، تكون عبر الإكثار المخبري السريع، فبعد نجاح العزل، تزرع أنسجة المرستيم في بيئات غذائية معقمة داخل المخابر لإنتاج شتول صغيرة، ويتم إخضاع هذه الشتول لفحوصات مصليّة دقيقة للتحقق من خلوّها من الفيروسات، ثم تضاعف هذه النباتات بطرق الإكثار النسيجي (In Vitro) لتوفير أعداد كبيرة من الشتول السليمة خلال فترة زمنية قصيرة، لتأتي المرحلة الثالثة وهي إنتاج درنات الميني تيوبر، وتزرع الشتول الناتجة عن الإكثار المخبري في بيوت شبكية محمية ضمن ظروف مراقبة، بهدف إنتاج درنات صغيرة الحجم تعرف باسم الميني تيوبر، وهي تمثل الجيل الأول من البذار المعتمد، وتتميز هذه الدرنات بكونها صحية وخالية من الأمراض، أما المرحلة الأخيرة، فهي المراحل الحقلية المتتالية، إذ بعد إنتاج الميني تيوبر، تزرع في الحقول تحت إشراف فني صارم لإنتاج بذار الأجيال التالية (الأساسي والمعتمد)، وتجرى خلال هذه المراحل عمليات انتخاب دقيقة للتخلص من النباتات غير المطابقة أو المصابة.
البنك الوراثي للأصناف
وأوضح أن البنك الوراثي يمثل جزءاً محورياً في المشروع، إذ يضم معظم الأصناف المرغوبة من قبل المزارعين مثل سبونتا، ديامونت، ليزا، أغريا وغيرها، ويتم تجديد هذه الأصناف دورياً للحفاظ على حيويتها وإنتاجيتها، مع إدخال أصناف جديدة بشكل مستمر بما يتلاءم مع التغيرات المناخية واحتياجات السوق.
كما أشار م. الحمود أن للمشروع فوائد جمّة، يتحقق عبره، تقليل الاستيراد وتخفيض التكاليف، فهو يساهم في تقليص الحاجة إلى استيراد بذار البطاطا المكلف، مما ينعكس مباشرة على تخفيض تكلفة الإنتاج الزراعي، كذلك زيادة الإنتاجية وجودة المحصول، فاستخدام بذار سليم ومعتمد يؤدي إلى تحسين مردودية الدونم، وزيادة وزن وجودة الدرنات، كما يحقق الاكتفاء الذاتي، لأن المشروع يمثّل خطوة نحو تحقيق الأمن الغذائي من خلال ضمان توفر البذار بشكل محلي ومستدام.
إضافة إلى خلق فرص عمل، كونه يفتح آفاقاً لفرص تشغيلية جديدة في مجالات الزراعة والمخابر والإنتاج، وكذلك تعزيز الثقة بين المزارع والمؤسسة، من خلال توفير بذار معتمد وبأسعار مناسبة، يتم دعم المزارع مباشرة وزيادة التزامه بالتقنيات الحديثة.
على الرغم من النجاحات التي حققها المشروع، إلا أنه لا يخلو من العديد من التحديات، أبرزها الحاجة المستمرة لتحديث المخابر والتجهيزات، وارتفاع تكاليف المواد الأولية المستوردة للإكثار المخبري، مع ضرورة تدريب الكوادر البشرية بشكل مستمر، ناهيك عن مواجهة الظروف المناخية المتقلبة التي قد تؤثر على المراحل الحقلية.
نقلة نوعية
الباحث في زراعة البطاطا الدكتور سامر الحمصي، لفت إلى أن المشروع الوطني لإنتاج بذار البطاطا يعد نقلة نوعية في قطاع الزراعة، فهو يضع سوريا على طريق الاستقلال في هذا المجال الاستراتيجي، وإنتاج بذار سليم محلياً لا يوفر المال فقط، بل يعزز الثقة بجودة المحصول ويشجّع المزارع على التوسع في زراعة البطاطا.
الخبير في الإكثار المخبري المهندسة هناء يوسف، نوهت بأن العزل المخبري للمرستيم والإكثار النسيجي هما قلب هذا المشروع، ومن دون هذه المرحلة الدقيقة، لا يمكن ضمان خلوّ البذار من الفيروسات، مضيفة: لقد أصبح لدينا اليوم خبرات محلية قادرة على إنتاج بذار بمواصفات تضاهي المستورد.
بدوره المهندس الزراعي الميداني أحمد ديب، قال: من خلال متابعتي للمزارعين الذين استخدموا بذار المشروع الوطني، لاحظت فرقاً واضحاً في الإنتاجية، الدرنات أكثر تجانساً، والنباتات أكثر قوة، مما انعكس إيجاباً على دخل المزارع، أما التحدي الحالي يكمن في توسيع نطاق التوزيع ليشمل جميع المحافظات.
نموذج يحتذى به
يمثل المشروع الوطني لإنتاج بذار البطاطا نموذجاً ناجحاً لمشاريع الاستدامة الزراعية، إذ جمع بين التقدم العلمي في تقنيات الإكثار المخبري، والحاجة العملية للمزارعين، إلى بذار موثوق ومتاح، ولقد خطت المؤسسة العامة لإكثار البذار خطوة رائدة بهذا المشروع، وساهمت في حماية الزراعة من تقلبات السوق الخارجية، وخففت الأعباء الاقتصادية، وعززت الأمن الغذائي.
ومع استمرار تحديث التقنيات وتوسيع البنية التحتية وتطوير الكوادر، فإن المشروع مرشح ليكون ركيزة أساسية في تطوير قطاع البطاطا في سوريا، وليشكّل نموذجاً يحتذى به في باقي المحاصيل الاستراتيجية.