الثورة – جهاد اصطيف:
لم يعد الخبز في حلب مجرد مادة غذائية أساسية، بل أصبح عنواناً لمشهد يومي متكرر، يعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المواطن.. أمام المخابز، وخاصة مخبزي الحديقة العامة والرازي، تتشكل طوابير من الباحثين عن حصة من الأرغفة، سرعان ما تتحول إلى سلعة جديدة تباع بأضعاف سعرها أمام المخبز نفسه.
بين نساء يبعن الخبز لإعالة أسرهن، وأطفال يهرولون بين السيارات لعرض الأرغفة، ورجال يقفون بانتظار المشترين المستعجلين، تتجلى ظاهرة أخذت مكانها في تفاصيل الحياة اليومية حتى غدت جزءاً من “روتين” المدينة. غير أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد مشكلة تموينية أو تصرف فردي، بل تحولت إلى دليل حي على عجز الحملات التموينية المتكررة عن إيجاد حل جذري لها.
الأرغفة على الأرصفة
منذ ساعات الصباح الأولى، تتوزع عشرات النساء والأطفال أمام المخابز، وحتى الرجال يحصلون على الخبز، ثم يقفون على بعد أمتار لعرضها للبيع، الزبائن في الغالب هم سائقو سيارات أو سرافيس، لا يملكون وقتاً للانتظار، فيدفعون سعراً مضاعفاً مقابل الحصول على الخبز بسرعة.
يبين أبو إسماعيل، سائق سرفيس على خط باب الجنان، أنه إذا وقف على الدور ، يمكن أن يتأخر عن الرحلة، وهذا يساوي قوت يوم عائلته، لذلك يشتري الخبز من البائعين، حتى لو كان بسعر أعلى.بهذا المنطق البسيط، تتحول الأزمة التموينية إلى دائرة متكاملة، مواطن مضطر للبيع بحثاً عن دخل إضافي، وآخر مضطر للشراء توفيراً لوقته، وسط غياب بدائل فعلية تضمن وصول المادة بسهولة ومن دون استغلال.
من الحاجة إلى المهنة
اللافت أن بيع الخبز لم يعد تصرفاً فردياً عابراً، بل أصبح مهنة يتوارثها البعض، ويعتمدون عليها كمصدر دخل أساسي، كثير من النساء اللواتي يبعن الأرغفة أمام المخابز، يؤكدن أن ما يحصلن عليه يومياً يعادل راتب موظف حكومي، بل يفوقه أحياناً.
تقول أرملة خمسينية تحدثنا معها: راتب ابني لا يكفي حتى إيجار البيت، أبيع الخبز هنا كل صباح وأعود آخر النهار بما يسد رمقنا، صحيح أن الناس ينتقدوننا، لكن من ينتقدنا لا يعرف ما يعنيه أن ترى أطفالك جائعين، هكذا تتحول الأرغفة إلى وسيلة للرزق، في ظل انعدام فرص العمل وتدني الأجور، لتصبح الحاجة أقوى من أي رقابة أو حملة ضبط.
زوبعة في فنجان
منذ سنوات، لم تتوقف الجهات المعنية في حلب عن تنظيم حملات لضبط الباعة أمام المخابز، سيارات التموين تجوب الشوارع، تصادر الأرغفة، تنظم الضبوط التموينية، وأحياناً يُزج بعض الباعة في أقسام الشرطة لساعات، لكن النتيجة كانت دائماً واحدة، عودة الظاهرة في اليوم التالي، وكأن شيئاً لم يكن.
يصف أبو مصطفى، موظف حكومي، هذه الحملات بأنها مجرد زوبعة في فنجان، نراهم يومين أو ثلاثة ثم يختفون، والباعة يعودون، المشكلة أكبر من أن تحل بمصادرة ربطة خبز من امرأة فقيرة.النقد الأساسي هنا أن الحملات تتعامل مع النتيجة لا السبب، فهي تستهدف البائع البسيط الذي يقف على الرصيف، وتتجاهل الظروف المعيشية التي دفعت به إلى هذه المهنة القسرية.
ولتفسير الظاهرة، لابد من النظر إلى جذورها، والبداية من الأجور المتدنية، حيث متوسط راتب الموظف في حلب لا يتجاوز المليون ليرة سورية، وهو مبلغ لا يغطي سوى أيام قليلة من حاجات الأسرة، وكذلك ارتفاع الأسعار الجنوني، فمعظم المواد الغذائية والأساسية تضاعفت أسعارها مرات عدة، ما جعل الخبز ملاذاً وحيداً لإطعام العائلات، ولا ننسى البطالة وغياب فرص العمل، فهناك الكثير من الشباب عاجزون عن إيجاد عمل، ما يدفعهم أو يدفع أسرهم للجوء إلى بيع الخبز كمصدر رزق.أمام هذا الواقع، يصبح بيع الخبز ظاهرة “منطقية” وليست شاذة، إذ هي استجابة طبيعية لظروف غير طبيعية.
شهادات من قلب الأزمة
أم محمد، ربة منزل: أبيع الربطة الواحدة بسعر مضاعف عندما يكون الازدحام واضحاً أمام المخبز، وأحياناً أبيع الربطة بزيادة 2000 ليرة سورية، المربح غير ثابت، لكنه يساعدني على شراء الخضار أو دفع أجرة المواصلات.
طفل يبلغ 12 عاماً: عادة أبيع الخبز بعد المدرسة، أحياناً أشتري دفتراً وعلبة أقلام من المال الذي أحصل عليه، لا أحب الوقوف هنا، لكن أبي مريض ولا يعمل.
موظف حكومي: راتبي أصبح قرابة المليون ليرة سورية، أحتاج يومياً 16 ألف ليرة على الأقل لأطعم عائلتي، إذاً، كيف نعيش من دون حلول جذرية؟
الخبز مرآة أزمة
ظاهرة بيع الخبز في حلب ليست مجرد طارئ تمويني، ولا مخالفة قانونية بسيطة، إنها مرآة تعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ودليل على عجز الإجراءات المتبعة عن ملامسة جوهر المشكلة، فما دام المواطن يسعى وراء رغيف الخبز، وما دامت الحملات التموينية تنشغل بمطاردة الباعة بدلاً من المعالجة، ستبقى الأرغفة على الأرصفة شاهداً يومياً على معادلة ظالمة.. مواطن يبحث عن الحياة، وسلطة محلية تكتفي بمطاردة ظلالها.