الثورة – مها دياب:
في قلب المدارس السورية، تتكشف أزمة تعليمية واجتماعية عميقة، تتعلق بضعف مهارات القراءة والكتابة لدى عدد كبير من الطلاب، وهي أزمة لا يمكن فصلها عن السياق السياسي والإنساني الذي عاشته البلاد خلال السنوات الماضية.
مدرسة اللغة العربية آمنة ذكي محمود، تقدم شهادة مؤثرة من داخل الصفوف الدراسية، تكشف فيها حجم التحديات التي تواجه المعلمين والطلاب، وتطرح رؤيتها لحلول واقعية قابلة للتطبيق.

معاناة داخل المدارس
تشير المعلمة محمود في حديثها لـ”الثورة”، إلى الواقع الصعب داخل المدارس اليوم، الذي لا يعكس فقط ضعفاً في التحصيل الدراسي، بل أزمة بنيوية في النظام التعليمي.
تقول: “لدينا أعداد هائلة من الطلاب لا تعرف القراءة بالعربية، وقد وصلوا إلى الصف السابع”.
هذا الكلام يوضح خللاً عميقاً في مراحل التعليم الأولى، إذ يفترض أن يكون الطالب قد اكتسب المهارات الأساسية في القراءة والكتابة قبل الانتقال إلى الصفوف العليا، متابعة: فكرنا بوجود شعب خاصة لتعليم القراءة والكتابة، وهذا يشكل حلاً مؤقتاً، ولكنه يترك أثراً نفسياً سلبياً على الطالب، إذ يشعر أنه مختلف عن أقرانه، ما يؤدي إلى ضعف في الثقة بالنفس وتراجع في بناء الشخصية”.
هذا التوصيف يفتح الباب أمام ضرورة التفكير في حلول تربوية أكثر دمجاً، تتيح للطلاب التعلم من دون أن يشعروا بالعزلة أو النقص.
تنتقل المعلمة محمود إلى الحديث عن فئة أخرى من الطلاب، وهم القادمون من مناطق النزوح أو من دول المهجر كأوروبا وتركيا، وتقول: بالنسبة للقادمين، لديهم ضعف شديد باللغة العربية، ويصبح لديهم صعوبة بالتعلم.
وتبين أن هؤلاء الأطفال، الذين عاشوا سنوات في بيئات غير ناطقة بالعربية، يجدون أنفسهم فجأة في صفوف دراسية تعتمد على لغة لم يتقنوها، ما يخلق فجوة تعليمية واجتماعية بينهم وبين أقرانهم.
وتضيف: هؤلاء يحتاجون إلى محو أمية بالعربية، لأنهم لم يتعلموها في بلاد المهجر، وعند عودتهم يجدون أنفسهم عاجزين عن متابعة الدروس، وهذا الواقع يفرض على المدارس مسؤولية مضاعفة، ليس فقط في تعليم المناهج، بل في إعادة بناء الأساس اللغوي لهؤلاء الأطفال، بما يضمن لهم تكافؤ الفرص في التعلم.

نتاج الحرب
وترى أن السبب الجذري لهذه الأزمة يعود إلى الحرب التي امتدت لأكثر من عقد ونصف، وأدت إلى توقف التعليم في كثير من المناطق، وحرمت آلاف الأطفال من حقهم في التعلم، فالحرب لم تدمر البنية التحتية فقط، بل مزقت النسيج الاجتماعي، وأثرت على قدرة الأسر في دعم أطفالها تعليمياً.
وتتابع: حتى الأمهات التي لم تتعلم بسبب الحرب، وأصبح هناك زواج مبكر، وهذا انعكس أيضاً على تدريس الأطفال، وفي هذا السياق، يصبح محو الأمية قضية متعددة الأبعاد، تشمل الأطفال والأمهات، وتحتاج إلى تدخلات تربوية واجتماعية ونفسية متكاملة.
وتشدد المعلمة محمود على ضرورة إطلاق حملات وطنية شاملة لمحو الأمية، لا تقتصر على الأطفال فقط، بل تشمل الأمهات أيضاً، وترافقها برامج دعم نفسي واجتماعي تؤكد على دور وأهمية التعليم في إعادة بناء الإنسان السوري وبناء الوطن، وأنه مازالت هناك فرص للتعليم رغم كل التحديات.
وتضيف: يجب أن تكون هذه الحملات مدعومة من الجهات الرسمية، ومنظمات المجتمع المدني، وأن تصل إلى المناطق النائية والمهمشة، إذ تتفاقم مشكلة الأمية بشكل أكبر.
الحل يبدأ من الصفوف الأولى
وتقترح المعلمة محمود مجموعة من الحلول العملية، تبدأ من تخصيص حصص لتعليم الكتابة والقراءة في المرحلة الابتدائية، خاصة للطلاب القادمين من الخارج أو من مناطق النزوح، لافتة إلى أنه من الممكن وضع حصص لتعليم الطلاب الكتابة، وخاصة في المرحلة الابتدائية للقادمين، وهذا الحل يركز على الوقاية المبكرة، ويمنع تراكم الفجوات التعليمية التي يصعب سدها لاحقاً.
وتؤكد على أهمية إعداد الكوادر التعليمية بشكل جيد، وتمكينهم من أدوات تربوية حديثة، تتيح لهم التعامل مع الأطفال بطريقة فعالة وإنسانية خاصة الأول والثاني في المرحلة الابتدائية، والأول الإعدادي لأنه يمثل مرحلة انتقالية تخيف الطلاب وتربكهم.
ولفت إلى أن نجاح أي خطة تعليمية يعتمد على التعاون بين المدرسة والأهالي، خاصة بالنسبة للأطفال العائدين من أوروبا، وتركيا، الذين يواجهون صعوبات في التأقلم مع المناهج العربية، وهذا التعاون لا يجب أن يقتصر على الجانب الأكاديمي، بل يشمل أيضاً الدعم النفسي والاجتماعي، ومتابعة الطفل داخل المنزل، وتعزيز ثقته بنفسه.
وتضيف: يجب أن يشعر الطفل أن المدرسة والأسرة تعملان معاً من أجله، وأنه ليس وحده في مواجهة التحديات.
يعيد بناء الإنسان
تختم المعلمة آمنة محمود قولها: على الرغم من وجود أزمة تعليمية واجتماعية عميقة لدينا، إلا أنه في الوقت ذاته هناك الكثير من الحلول الواقعية والقابلة للتطبيق، فمحو الأمية باللغة العربية لم يعد مجرد هدف تربوي، بل أصبح ضرورة وطنية لإعادة بناء الإنسان السوري بعد سنوات من الحرب والشتات، من خلال دعم الصفوف الأولى، وتأهيل الكوادر التعليمية، وإطلاق حملات توعية ومحو أمية شاملة، كل هذا يمكننا من استعادة حق الأطفال في التعلم، وتعزيز فرصهم في مستقبل أفضل.
كما أن إشراك الأسرة، وتوفير بيئة تعليمية آمنة، وتبني مناهج مرنة تراعي الفروقات الفردية، كلها خطوات ضرورية نحو تعليم شامل يعيد بناء الإنسان، ويمنح الأطفال فرصة حقيقية للنهوض من تحت ركام الحرب إلى فضاء الأمل والمعرفة.