الثورة – ناديا سعود:
في أمسية تحمل الأمل بعد أعوام من الخراب، انطلقت الخميس 11 أيلول في دير الزور حملة “دير العز” للتبرعات، لتكون أكثر من مجرد مبادرة لجمع الأموال، بل نداء لإحياء مدينة أنهكتها الحرب والحصار.
فبين جدران مهدمة وطرقات صامتة، يسعى أبناء المدينة إلى إعادة الروح لمكان فقد أكثر من ثلثي بنيته التحتية، وإلى ترميم الذاكرة الجمعية قبل الحجر، إنها ليست حملة إعمار فحسب، بل خطوة لإعادة الحياة إلى شريان الشرق السوري، وترسيخ معنى التضامن في وجه سنوات الألم.
الحملة، التي كان هدفها المبدئي جمع خمسة ملايين دولار، سرعان ما كسرت التوقعات لتصل حصيلتها إلى 31 مليون دولار، في مشهد عكس حجم الثقة بالمبادرة وروح التضامن الوطني.
إعادة الروح للمدينة
مسؤول التواصل في مكتب العلاقات العامة بحملة دير العز يوسف النايف، يقول لصحيفة الثورة: بصراحة، كان التجاوب مشرفاً وفوق كل توقعاتنا، السوريون جميعاً، سواء في الداخل أم الخارج، وقفوا إلى جانب دير الزور، شعرنا أننا شعب واحد، على أرض واحدة، بمصير واحد.
ولا تقتصر أهداف “دير العز” على جمع التبرعات المالية، بل تتجاوزها إلى إعادة الروح للمدينة، وتعزيز روابط التكاتف الاجتماعي، ويؤكد القائمون على الحملة أن الأموال ستُوجَّه وفق آلية شفافة ومدروسة، وسيتم تخصيصها لقطاعات حيوية، أبرزها:
القطاع الإغاثي: توزيع سلال غذائية ودوائية للأسر الأكثر حاجة، دعم عوائل الشهداء بمساعدة 100 عائلة عبر ترميم منازلهم وتقديم دعم مباشر، المشاريع الخدمية العاجلة كترميم المدارس المتضررة ودعم القطاع الصحي.
الأجمل أن هذه المبالغ لم تأتِ فقط من رجال الأعمال، بل من تبرعات بسيطة لأناس بسطاء قدّموا ما لديهم، رغم قلة إمكاناتهم. وهذا يعكس أسمى معاني الإنسانية.
يضيف النايف: الحملة لم تكن حدثاً محلياً فحسب، إذ شاركت فيها محافظات أخرى بخبراتها ودعمها، خاصة من دمشق، وحلب، وحمص، وحوران، ما ساعد في إنجاح الحفل وجذب رجال أعمال بارزين.
ويقول: معاناة أي محافظة هي معاناة لكل السوريين، وهذا التفاعل برهن أن الكرم لا يقتصر على منطقة واحدة بل يشمل كل الوطن.
رأس المال الوطني شريك
رجال الأعمال السوريون، داخل البلاد وخارجها، لعبوا دوراً محورياً في إنجاح الحملة عبر مساهمات سخية، إضافة إلى تحفيز الآخرين على المشاركة، ووفق القائمين، فإن هذه الخطوة عكست حرص رأس المال الوطني على أن يكون شريكاً في إعادة بناء المجتمع، لا مجرد ممول.
وجّه النايف رسالة لأهالي دير الزور قائلاً: أنتم في القلب، وهذه الحملة ليست إلا رسالة حب ووفاء لكم، أما المتبرعون، فجزاهم الله خيراً، فقد كانوا خير سند لأهلهم، هذه الحملة ليست باسم شخص أو جهة، بل هي ملحمة شارك فيها الجميع.
وكان المكتب الإعلامي في محافظة دير الزور، كالجنود المجهولين الذين عملوا بصمت خلف الكواليس لإنجاح المبادرة.
بداية لعودة الحياة
رجل الأعمال ساري الحمد، الذي شارك في الحملة سواء كان بالتبرع أم الترويج الإعلامي أكد في حديث خاص لـ”الثورة”، أن حملة دير العز تأتي استجابة لواجب وطني وأخلاقي تجاه محافظة دير الزور وأهلها الذين عانوا لسنوات طويلة من التهميش، ثم من التدمير الممنهج خلال سنوات الحرب.
وقال الحمد: أنا كمواطن سوري، أفخر بانتمائي لصفوف أبناء الثورة الأوائل، وأفخر أكثر بأني من دير الزور، مدينة العز والنخوة، وكل جهد يخفف المعاناة عن أهلي السوريين الأحرار واجب عليّ، كما كان واجبي في ساحات الثورة منذ بدايتها.
وأضاف: إن محافظة دير الزور اليوم مدينة شبه مدمرة، بلا بنى تحتية، ولا خدمات صحية أو تعليمية تليق بكرامة الإنسان، المستشفيات تكاد تكون معدومة، والمدارس المدمرة وحدها يبلغ عددها 256 مدرسة، فضلاً عن طرق متهالكة ومليئة بالركام” على حد وصفه.
وأوضح الحمد أن الحملة تستهدف ترميم عدد من المدارس، وشراء أجهزة طبية حديثة وعلى رأسها جهاز رنين مغناطيسي، وصيانة منازل مساعدة أرامل الشهداء الأكثر حاجة، وشراء معدات ثقيلة لفتح الطرق، مضيفاً: نعتبر هذه الخطوات بمثابة بث للحياة في عروق المدينة والريف، ولمسة أمل في واقع مؤلم.
“الفزعة” من أهلها
وأشار الحمد إلى أن ثقافة التكافل التي يتسم بها أبناء الريف ساعدت في تلبية احتياجات أساسية خلال سنوات المعاناة، فيما يبقى واقع المدينة أكثر صعوبة، وقال: ما شاهدناه في حملة دير العز كان مشهداً مشرفاً، أبناء المناطق الثائرة هم الأكثر تبرعاً، كما رأينا سابقاً في حملة أبشري حوران، فأهل الدير معروفون بالكرم والنخوة، ولن يقصروا في مد يد العون.
ووجه رسالة خاصة لأهالي المحافظة قائلاً: أطفالنا بحاجة لمدارس تليق بجيل الثورة والبناء، ومرضانا يستحقون أفضل المستشفيات، هذه الحملة لن تكون الأخيرة، فالفزعة الحقيقية ستكون على قدر أهله.
وأوضح أنه نذر حياته منذ انطلاقة الثورة للتظاهر والعمل الميداني ثم الدعم المادي، وصولاً إلى النشاط الإعلامي عبر وسائل التواصل، وأشار إلى أنه ركز جهوده على منصة «X» (تويتر سابقاً) لمواجهة الحملات الإعلامية التي تقودها جيوش إلكترونية مرتبطة بالنظام وحلفائه.
وقال: عملت على فضح الجرائم وتفنيد الروايات المضللة، وبعد التحرير، كان صوتنا داعماً لكل الإيجابيات، وناقداً للسلبيات بهدف التصحيح، ما قمنا به في الترويج لحملة دير العز جاء من خبرتنا السابقة مع النشطاء وحملة أبشري حوران، ومن خلال تواصل يومي مع الفريق الإعلامي والتشاور مع خبراء لتجاوز العقبات.وختم الحمد بالقول: على الرغم من بعض الأخطاء الطبيعية في البدايات، إلا أن ما تحقق بفضل الله وبجهود النشطاء والمتبرعين يستحق الإشادة، ما شاهدناه هو بداية حقيقية لعمل جماعي منظم يعيد الأمل لأهلنا في دير الزور.
صندوق الأمل
المتبرع عمر درويش، أحد أبرز الداعمين للحملة، تحدث عن الدافع للمشاركة قائلاً: هذا واجب علينا جميعاً، نحن أبناء دير الزور، المدينة التي أعطتنا من خيراتها الكثير، ومن الواجب أن نقف اليوم إلى جانبها، مدينة الشموخ والكرم والشهامة، المدينة التي ظلمها النظام البائد وقدمت الكثير من التضحيات، وما نالها من الخير بعد التحرير إلا القليل.
وبين أن المبادرة انطلقت بفضل مجموعة من رجال الأعمال السوريين في إسطنبول، الذين أسسوا صندوقاً خيرياً حمل اسم “صندوق 9800” إبان الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا.. الصندوق، الذي يرأسه الدكتور عبد الرحمن الراوي، قدم دعماً واسعاً للمتضررين، سواء في تركيا أم في الشمال السوري، وحتى في مناطق سيطرة النظام بصمت ومن دون إعلان.
درويش، أشار إلى أن إدارة الصندوق رأت ضرورة توجيه الدعم أيضاً إلى دير الزور، مضيفاً: اتخذنا قراراً بتخصيص 600 ألف دولار لشراء جهاز رنين مغناطيسي لمستشفى المحافظة، لن نترك الأمر حتى نرى الجهاز مركباً بأعيننا ويخدم أبناء مدينتنا.
تكاتف وطني يتجاوز الحدود
حملة “دير العز” لم تكن عملاً فردياً، بل ثمرة جهود جماعية التقت فيها مبادرات عدة، فقد تعاون فريق الحملة مع أصحاب مبادرة “أربعاء حمص”، وعلى رأسهم نور الأتاسي، والمخرج همام حوت، والمخرج المنفذ عبد لله الأقرع، والأستاذ سلمة عبده وفريقهم، إلى جانب شخصيات وفرق شبابية من دير الزور ومن محافظات سورية أخرى، وحتى من لبنان ومصر.
هذا التلاحم الشعبي، كما وصفه درويش، أعطى الحملة بعداً يتجاوز دير الزور ليجسد صورة لسوريا التي يحلم بها أبناؤها: بلدنا لن تعمّر إلا بتكاتفنا جميعاً كسوريين، من دير الزور إلى حمص، من إدلب إلى ريف دمشق، نحن بحاجة لهذه الفزعات المتبادلة.
بين الحاضر والمستقبل
الحملة نجحت في جمع أكثر من 35 مليون دولار في مرحلتها الأولى، مع وعود أن يكون الدعم مستمراً ودائماً، وليس مجرد حدث عابر، الهدف، كما يؤكد القائمون عليها، هو بناء مشاريع ملموسة وموثقة بالصور والفيديوهات، بدءاً من ترميم المدارس والمستشفيات، وصولاً إلى إعادة تأهيل الطرق والبنية التحتية.
يقول درويش: الشفافية أساس نجاحنا، كل مدرسة أو مستشفى أو طريق سيتم ترميمه سيوثق منذ اللحظة الأولى وحتى انتهاء العمل، ليعرف المتبرعون أين ذهبت أموالهم، حين يرون النتائج بأعينهم، سيتضاعف العطاء عاماً بعد عام.
صرخة لأجل دير الزور
الوضع الصحي في دير الزور، الميادين، والبوكمال ما زال “تحت الصفر”، وفق وصف المتبرعين، حوادث مؤلمة كثيرة رصدت لمرضى يضطرون للسفر إلى دمشق لغياب التجهيزات الطبية في المحافظة، ليواجهوا أخطار الطريق قبل أن يصلوا إلى العلاج.
ومن هنا، حملت الحملة رسالة عاجلة للحكومة السورية بضرورة إعطاء الأولوية لدعم القطاع الصحي في المحافظة، إلى جانب التعليم والبنية التحتية، باعتبارها ركائز أساسية لأي عملية إعادة إعمار حقيقية.
وفي ختام حديثه وجّه عمر درويش رسالة مؤثرة لأهله: أهل دير الزور أهل الكرم والفزعة، يوم الزلزال كانوا حديث العالم بوقفتهم، واليوم يعودون ليضربوا المثل في التكاتف، أشكر كل من تبرع بدولار قبل من تبرع بمليون، ولا نكلف أحداً إلا بقدر وسعه، الأمل أن تكون هذه بداية لنهضة جديدة، ليس لدير الزور وحدها، بل لكل المحافظات السورية.
حملة “دير العز” ليست مجرد مبادرة إغاثية، بل رسالة أمل أن السوريين قادرون على إعادة بناء وطنهم بأيديهم، متى ما تضافرت الجهود وتوحدت الإرادات.