الثورة _ تحقيق هلال عون :
في كل منعطف اقتصادي عاشته سوريا عبر تاريخها، بقيت الزراعة الملاذ الآمن والركيزة الصلبة التي يستند إليها الاقتصاد الوطني.
اليوم، وفي ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، تبرز الزراعة مجدداً كأحد أهم محركات التنمية، ليس فقط من حيث تأمين الغذاء، بل أيضاً عبر دورها المحوري في رفد الصناعات الوطنية وتوفير الأعلاف للثروة الحيوانية.
في هذا التحقيق نحاول تسليط الضوء على الأبعاد المتعددة لهذا القطاع، وعلى فرص النهوض به من خلال ربط الزراعة بالصناعة، وتعزيز إنتاج الأعلاف، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، بما يضمن تحقيق الاكتفاء الذاتي واستعادة موقع سوريا الطبيعي كبلد زراعي وصناعي.

من الحقل إلى المصنع
الصناعة الزراعية، تمثل حلقة وصل أساسية بين الزراعة والإنتاج الصناعي، حيث تتحول المنتجات الزراعية الخام إلى سلع ذات قيمة مضافة أعلى.
يشرح الدكتور سامر حسام الدين، المتخصص بالمكننة الصناعية والزراعية أن الصناعة الزراعية تمثل البوابة التي تنقل الزراعة من الحقول إلى المصانع، حيث تتحول المنتجات الخام إلى سلع ذات قيمة مضافة.
ويقول: “حين نزرع القمح لا نتوقف عند مرحلة الطحين، بل نذهب إلى المخبوزات والمعجنات.
وحين نقطف المشمش والتين، نستطيع أن نحولهما إلى مربيات وعصائر قابلة للتصدير.
“وفي دمشق، تقف مصانع الألبان مثالاً حياً على ذلك، فهي لا تكتفي بتجميع الحليب الطازج، بل تنتج أجباناً وألباناً مجففة تصل إلى أسواق داخلية وخارجية.
وفي الساحل السوري، تشكل صناعة زيت الزيتون قصة نجاح متكررة، إذ يتحول الزيتون الذي يُزرع على آلاف الهكتارات إلى زيت ذهبي عالي الجودة يلقى قبولاً في الأسواق العربية.
تعزيز الأمن الغذائي
هذا التحول – بحسب الدكتور سامر حسام الدين، لا يقتصر على دعم الاقتصاد الوطني فحسب، بل يخلق فرص عمل جديدة، ويعزز الأمن الغذائي، ويسهم في تنمية المجتمعات الريفية، خاصة أن الصناعة الزراعية في سوريا تغطي مجالات متعددة، أبرزها:
أولاً: معالجة الأغذية، وذلك بتحويل الحبوب والفواكه والخضار واللحوم إلى منتجات مصنعة مثل العصائر والمعلبات والألبان والمخبوزات.. الخ.
ثانياً: صناعة الأعلاف، باستخدام الذرة والشعير وفول الصويا لإنتاج أعلاف مركزة، مدعّمة بالفيتامينات والمعادن.
ثالثاً: صناعة الزيوت والدهون من الزيتون وعباد الشمس وفول الصويا، مع إمكانية التوسع في إنتاج الوقود الحيوي.
رابعاً: صناعة السكر من قصب السكر والبنجر السكري، مع الاستفادة من المنتجات الثانوية كدبس السكر.
خامساً: صناعة النسيج والأخشاب والورق اعتماداً على القطن والألياف النباتية والأشجار المزروعة.
سادساً: تنشيط الصناعات الدوائية والكيميائية عبر استخلاص مواد فعالة من النباتات الطبية.
تجارب دولية
في إسبانيا وإيطاليا، تحولت زراعة الزيتون إلى صناعة متكاملة تصدّر منتجاتها إلى مختلف أنحاء العالم.
وتعدّ البرازيل نموذجاً رائداً في صناعة السكر والإيثانول من قصب السكر، حيث أصبح الوقود الحيوي أحد أعمدة اقتصادها.
أما نيوزيلندا، فقد حولت إنتاج الألبان إلى صناعة ضخمة تقوم على التصدير، خصوصاً الحليب المجفف والجبن.
ويعلق الدكتور حسام الدين قائلاً: “إن تطوير الصناعة الزراعية في سوريا يعني تقليل الهدر، وتعزيز القيمة المضافة للمنتجات، وتحقيق استقلال اقتصادي أكبر عبر خفض فاتورة الاستيراد”.
أنواع الزراعة العلفية
بموازاة الصناعة، تلعب الزراعة العلفية دوراً جوهرياً في دعم قطاع الثروة الحيوانية، إذ توفر المحاصيل المزروعة خصيصاً لتغذية الأبقار والأغنام والماعز والدواجن، ما ينعكس بشكل مباشر على إنتاج اللحوم والألبان والبيض.
وتأتي الأعلاف الخضراء بين أهم أنواع الأعلاف، مثل البرسيم والفصة والشعير الأخضر.
وضمن الأعلاف الجافة يأتي التبن والدريس وحطب الذرة.
أما الأعلاف الغنية بالطاقة والبروتين فهي الذرة وفول الصويا والشعير.
ودائماً تتم معالجة الأعلاف المصنعة بإضافة عناصر غذائية إليها.
وتساعد الزراعة العلفية بتحسين إنتاجية الثروة الحيوانية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد وخفض التكاليف، وتحسين جودة المنتجات الحيوانية.
أحد مربي الماشية
في ريف حماة، يحكي أحد مربي الماشية (رضوان قاسم) أن أكثر ما يقلقه هو أسعار الأعلاف المستوردة.
لكن زراعة الشعير والذرة محلياً خففت من أعباء كثيرة.
يقول: “حين أنتج جزءاً من العلف في أرضي، أشعر أنني أملك السيطرة على تكاليف مزرعتي، فلا أضطر إلى تقليص عدد رؤوس الأغنام بسبب الغلاء.”
تحديات قائمة
رغم أهميتها، تواجه الزراعة العلفية في سوريا عدة عقبات، أبرزها: نقص المياه وارتفاع كلفة الري، التقلبات المناخية وتأثيرها على إنتاج المحاصيل، المنافسة بين المحاصيل الغذائية والعلفية على الأراضي الزراعية، وارتفاع أسعار المدخلات من بذور وأسمدة. تعدّ الولايات المتحدة أكبر منتج للبرسيم في العالم، وهو غذاء أساسي للأبقار الحلوب. وتعتمد الصين بشكل واسع على الذرة كعلف رئيسي للخنازير والدواجن. في أوروبا، تشكل الفصة عنصراً أساسياً في تغذية الماشية. أما في أفريقيا، فقد أثبتت الذرة الرفيعة كفاءتها كعلف في المناطق الجافة نظراً لمقاومتها للجفاف.
التكنولوجيا والزراعة
يرى د. حسام الدين، أنه لم يعد بالإمكان تطوير الزراعة بعيداً عن التكنولوجيا الحديثة، التي باتت تشكل العمود الفقري لأي استراتيجية زراعية مستدامة. ففي الزراعة الدقيقة يتم استخدام الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار لمراقبة المحاصيل وتقليل استخدام المياه والأسمدة. وكذلك يتم استخدام إنترنت الأشياء (IoT) لربط الآلات الزراعية بشبكات ذكية لمراقبة العمليات في الوقت الحقيقي. ويضاف إلى ما سبق الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات للتنبؤ بالإنتاجية وإدارة سلاسل التوريد. وبالاعتماد على التكنولوجيا الحيوية يتم تطوير محاصيل معدلة وراثياً أكثر مقاومة للجفاف والأمراض. في الاقتصاد الدائري تتم إعادة تدوير المخلفات الزراعية لإنتاج طاقة أو أعلاف أو أسمدة. وفي بعض الدول، يتم استخدام قش الأرز لإنتاج الورق أو الوقود الحيوي، ما يقلل من التلوث الناتج عن حرقه.
الفرص
تأتي التغيرات المناخية وشح المياه على رأس قائمة التحديات التي تواجهها الزراعة، وكذلك نقص البنية التحتية الحديثة في النقل والتخزين، وارتفاع تكاليف الطاقة والإنتاج، والمخاطر البيئية لبعض الصناعات إذا لم تُدر بشكل سليم. أما الفرص فتكمن في الاستثمار بالبحث العلمي والتطوير الزراعي، وبتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى فتح أسواق جديدة للتصدير، وتبني تقنيات الري الحديث والزراعة الذكية.
نحو مستقبل أكثر استقراراً
رغم صعوبة الظروف الراهنة، إلا أن الزراعة السورية ما زالت تملك مقومات قوية للنهوض من جديد، فالتربة الخصبة، والخبرة المتراكمة لدى المزارعين، والدعم الحكومي الممكن، جميعها تشكل عناصر أساسية لإعادة الاعتبار لهذا القطاع. الدكتور حسام الدين يختتم حديثه بالقول: “إن الزراعة ليست مجرد قطاع اقتصادي، بل هي قضية أمن قومي، ومن خلال الدمج بين الصناعة الزراعية والزراعة العلفية، وتبني التكنولوجيا الحديثة، يمكن لسوريا أن تحقق الاكتفاء الذاتي وتؤسس لاقتصاد متوازن ومستدام”.