الثورة – ثورة زينية:
قبل ست سنوات.. وفي أحد أكثرالمشاهد ألماً التي بثها الإعلام السوري آنذاك، كان حي العمارة الدمشقي العريق مسرحاً لفاجعة إنسانية راح ضحيتها سبعة أطفال من عائلة واحدة نتيجة اندلاع حريق في منزلهم ليلاً، كاميرات التلفزيون هرعت على الفور وقتها إلى المكان والمراسلون إلى الضحايا.
وفي ذروة المأساة توجه مراسل تلفزيوني إلى والد الأطفال المكلوم وسأله على الهواء مباشرة: ما هو شعورك تجاه زيارة رئيس الوزراء إلى الموقع؟.

لكن المفارقة المؤلمة لم تكن في السؤال فقط، بل في الرد غير المنطوق.
هشاشة المشاعر حين تغيب
ففيما كان الأب غارقاً في حزنه لم يجب بالكلمات، بل احتضن المراسل بقوة كأنما يبحث عن معنى وسط رماد ما تبقى، غيرأن المراسل وبعينين معلقتين بميكروفونه واصل طرح سؤاله من دون أن يظهر أي تفاعل عاطفي حقيقي مع تلك اللحظة الإنسانية الجارفة.
في هذه اللحظة لم يكن الحريق وحده من كشف هشاشة الحياة، بل أيضاً هشاشة المشاعر حين تغيب خلف الكاميرات والأقلام، لقد اختفى الذكاء العاطفي خلف سؤال روتيني موجه لأب مفجوع، فيما الحضن الصامت كان أقوى من أي تصريح.
وانهالت آنذاك الانتقادات الشديدة من قبل الناس التي نالت من المراسل التلفزيوني ووسيلته الإعلامية بأقسى العبارات، وأصبحت حديث الشارع السوري لفترة طويلة.
الذكاء العاطفي ليس رفاهية
هنا لم يكن غياب التعاطف مجرد خطأ مهني، بل شرخ في صميم إنسانيتنا، لقد أظهرالمشهد أن الذكاء العاطفي ليس رفاهية مهنية بل ضرورة في كلّ حقل يتعامل مع الناس خاصة في الإعلام، إذ الكلمة قد تجرح والحضور قد يواسي أو يخون.
هذا المشهد على قسوته يفتح باباً مهماً للتساؤل: هل يكمن في الذكاء العاطفي سر الصحافة التي تصنع الفرق؟
وإلى أي مدى يمتلك الصحفي أدوات الذكاء العاطفي أثناء تغطيته للأحداث، خصوصاً الكوارث والمآسي؟.
وكيف يتلقى الصحفي تدريباً على كيفية التعامل مع مشاعر الحزن والصدمة أو الغضب؟
وهل يعرف متى يصمت ومتى يتحدث؟
وكيف تمكنه بيئته المهنية من التعبير عن التعاطف من دون أن يتهم بعدم الاحترافية؟.
وهل الذكاء العاطفي ميزة فردية أم مهارة يمكن تعلمها وتطويرها داخل غرف التحرير ومعاهد الإعلام؟
هذه التساؤلات تمثل مدخلاً ضرورياً لفهم الدورالغائب للذكاء العاطفي في الحقل الصحفي، إذ غالباً ما يختزل دور الصحفي في نقل المعلومة لا في فهم الإنسان خلفها.
في كثير من غرف الأخبار يتصدر السبق الصحفي قائمة الأولويات بينما تهمش المهارات الناعمة كالتعاطف والإنصات ومراعاة السياق النفسي للضيوف أو الضحايا، صحفيون يعملون تحت ضغط الوقت والتوجيهات السياسية أو التحريرية ومقتضيات البث المباشر كلّ ذلك يسهم في تشكيل عقلية تؤمن أن المشاعر تؤجل أو لا مكان لها أصلاً، لكن النتيجة قد تكون كارثية:
صحفي قد يطرح سؤالاً قاسياً في لحظة ألم أو يغيب عن وجهه أي أثر للانفعال بينما يغطي مأساة إنسانية، والنتيجة ليست فقط فقدان ثقة الجمهور بل إلحاق ضرر نفسي فعلي بالضحايا.
تقول الصحفية لبنى، التي غطت قصصاً إنسانية عديدة: إنها لم تتمكن من نقل قصة أم فقدت طفلها في حادث تفجير إلا بعد أن استثمرت وقتاً في الاستماع بصمت واحترام من دون التسرع في طرح الأسئلة، موضحة أن هذا الصمت المدروس فتح باباً لمشاركة أعمق وجعل الأم تشعر بأنها ليست مجرد مصدر معلومات، بل إنسانة تفهم وتعامل برقة لكي تستطيع البوح بما لديها، وبالفعل حصلت لاحقاً على ما أريده من معلومات.
وفي تجربة أخرى للصحفي عمر، الذي عمل في مناطق الاشتباكات إبان الثورة السورية، أكد أن فهم مشاعر من حوله جعله يربح ثقة مصادره، مما أتاح له الوصول إلى شهادات حقيقية ونادرة تفوق كلّ التقاريرالميدانية التقليدية، موضحاً أنه من دون الذكاء العاطفي كنت سأخسر الكثير من القصص التي تستحق أن تروى.
هذه الشواهد تؤكد أن الذكاء العاطفي ليس فقط مهارة اجتماعية، بل هو جسر من الإنسانية في عالم الصحافة، إذ تصبح الكلمة أداة لإحداث التغيير الحقيقي لا مجرد نقل للخبر.
لماذا يحتاج الصحفي إلى الذكاء العاطفي؟
لأن الصحافة ليست مجرد نقل معلومة، بل مسؤولية اجتماعية وأخلاقية كما يصف الصحفي والخبير الإعلامي عبسي سميسم في حديثه لصحيفة الثورة، يرى أن الذكاء العاطفي يمنح الصحفي القدرة على قراءة المشهد الإنساني بدقة وكسب ثقة المصادر والضحايا عبر الإنصات والتعاطف الحقيقي، وتقديم محتوى أكثر إنصافاً وإنسانية لا يعتمد فقط على الإثارة أو العناوين العاطفية الفارغة.
ويبين أن الذكاء العاطفي يعد من المهارات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها الصحفي نظراً لطبيعة عمله المتغيرة وضغوطه المستمرة، موضحاً أن الذكاء العاطفي يتضمن جانبين رئيسيين: الأول يتعلق بالفرد نفسه أي قدرته على فهم مشاعره والتحكم بها وإدارتها، أما الجانب الثاني فيرتبط بالآخرين أي القدرة على فهم مشاعرهم والتأثير فيهم إيجابياً، سواء من خلال توجيه السلوك أم بناء علاقات مهنية متوازنة.
ويؤكد الخبير الإعلامي سميسم، أن الصحفي الذي يمتلك ذكاء عاطفياً عالياً يكون أكثر قدرة على التعامل مع المواقف الحرجة، وضبط انفعالاته خلال تغطية الأحداث كما يتمكن من فهم عواطف مصادره بشكل أعمق، ما يسهل عليه الحصول على المعلومات وتجنب الاستفزازات أو الوقوع في مواقف غير مهنية.
ويشير إلى أن الذكاء العاطفي ليس مهارة فطرية فقط، بل يمكن تطويره عبر تغيير طريقة التفكير وتبني نظرة إيجابية للأمور، والابتعاد عن التوتر ووضع أهداف تكتيكية واستراتيجية تبعث على الشعور بالرضا أثناء السعي لتحقيقها، كما ينصح باعتماد مفكرة يومية لتسجيل المشاعر والملاحظات، لما لها من دور في تعميق فهم الصحفي لذاته، إضافة إلى أهمية القراءة اليومية لفهم أوسع لعواطف الآخرين.
ويؤكد الخبير الإعلامي سميسم على ضرورة أن يوازن الصحفي بين متطلبات عمله وضغط ملاحقة الأخبار المستمرة، وبين تنظيم وقته ونومه قدر الإمكان، لأن هذا التوازن يمنحه قدراً من الاسترخاء، ويساهم في تقليل التوتر، ما ينعكس إيجاباً على أدائه المهني.
التيبس العاطفي
وبين أنه في معظم كليات الإعلام في المنطقة العربية لا يوجد تدريب منهجي على الذكاء العاطفي ويتم التركيز على القواعد الصحفية والمهارات الفنية وأخلاقيات المهنة من منظور تقني، لكن لا توجد وحدات تعليمية مخصصة لكيفية التعامل مع المشاعر في الميدان أو كيفية الإنصات أو متى يكون الصمت أنبل من السؤال؟ وحتى في المؤسسات الإعلامية الكبرى نادراً ما يقدم دعم نفسي، أو تدريب عاطفي للصحفيين العاملين في مناطق النزاع أو الكوارث والنتيجة، حالة من ما يسمى (التيبس العاطفي) يتعامل فيها الصحفي مع المآسي كروتين يومي من دون حماية نفسية له أو للمتأثرين بما ينقله.
وشدد الخبير الإعلامي على أن الذكاء العاطفي في مهنة الصحافة ليس رفاهية أو ميزة إضافية، بل هو القوة الدافعة التي تحول التحقيقات من مجرد سرد للمعلومات إلى قصص تلامس القلوب وتحرك العقول، إنه السلاح الخفي الذي يملك الصحفي من خلاله القدرة على بناء جسور من الثقة مع مصادره وتحويل اللقاءات إلى تجارب إنسانية عميقة، منوهاً بأنه في عالم تتسارع فيه الأخبار وتغرق فيه الحقائق في بحر من المعلومات يبقى الذكاء العاطفي هو البوصلة التي توجه الصحفي نحو الحقيقة الإنسانية، وتكون الكلمة ليست مجرد خبر، بل تجربة تشعر وتحرك.
فالصحفي الذي يمتلك هذا الذكاء- حسب الصحفي سميسم- لا يروي قصة فقط، بل يزرع بذور التغيير في النفوس والمجتمعات ليصنع بفطرته ومهارته جسوراً من الفهم والإنسانية، فهو الفن الخفي الذي أصبح اليوم ضرورة لكل صحفي يريد أن يتجاوز نقل الوقائع إلى سرد إنساني يلامس القلوب ويغير الواقع.
في خضم سباق الأخبار قد ينسى البعض أن الصحافة ليست فقط نقلاً لما حدث، بل فهم لما شعر به الناس حين حدث، فالذكاء العاطفي ليس ميزة إضافية للصحفي بل ضرورة جوهرية تضمن ألا يتحول إلى آلة وألا يتحول الضحايا إلى مجرد مادة.
في كل كارثة هناك فرصة لإحياء إنسانية المهنة ومتى ما امتلك الصحفي تلك البوصلة العاطفية أصبح أكثر من ناقل للحدث، بل شاهد عليه بضمير حي، إنها دعوة لأن نعيد للمهنة قلبها، وأن نعلم الأجيال القادمة من الصحفيين أن الذكاء لا يقاس بسرعة السؤال، بل بصدق التفاعل، فربما لا نمنع الألم لكننا على الأقل نستطيع أن نحترمه.